فى لبنان: التقشف ليس الحل
من الفضاء الإلكتروني «مدونات»
آخر تحديث:
الجمعة 9 أغسطس 2019 - 11:25 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة «ليديا أسود» تناولت فيه الإجراءات التى اتبعتها لبنان فى الموازنة العامة لمواجهة مشكلة تفاقم الدين العام وتطرح ما تراه من بدائل أفضل للتعامل مع هذه الأزمة.
بلغ الدين العام اللبنانى نسبة مرتفعة جدا وصلت إلى 150 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى فى العام 2018، وهو ما دفع البلاد إلى حافة أزمة اقتصادية ومالية كبرى. وللتخفيف من وطأة المشكلة، اعتمدت الحكومة أخيرا إجراءات تقشفية فى موازنتها للعام 2019. وهذا مؤسف نظرا إلى أن الوضع الاقتصادى الراهن يتسم بتدهور شديد فى البنى التحتية التابعة للدولة، وتفشى الفقر، فضلا عن أن مستوى اللامساواة هو من بين الأعلى فى العالم.
وقد أعلنت الحكومة عن مجموعة واسعة من الإجراءات فى الموازنة لمواجهة أزمة الديون. وتشمل هذه الإجراءات تخفيضات فى رواتب موظفى القطاع العام وأجورهم ومعاشاتهم التقاعدية؛ وزيادة الضرائب على السلع المستوردة، وعلى رسم الخروج من مطار بيروت؛ وفرض رسوم إضافية على أرقام لوحات السيارات المميزة، وزجاج السيارات الداكن، ورخص حمل السلاح؛ إضافة إلى تخفيض المبالغ المخصصة لتمويل المنظمات غير الحكومية.
تُعتبر الإجراءات الجديدة هامشية وغير متماسكة، ولن تكون فعالة على الأرجح. والأهم، سيقع عبء التدابير الجديدة، بطريقة غير متكافئة، على كاهل الأشخاص الأضعف اقتصاديا، وغالب الظن أنه سيفاقم تدهور مستواهم المعيشى. أما الإصلاحات التى تستهدف الأكثر ثراء، مثل الرسم المقترح على زجاج السيارات الداكن الذى غالبا ما يرتبط بالأشخاص النافذين، فهى رمزية أكثر منها موجَهة نحو تقليص العجز. واقع الحال هو أن الدولة لم تطلب فعليا من الأثرياء المشاركة فى خفض العجز، على الرغم من أنهم المسئولون بالدرجة الأولى عن مديونيتها.
***
ماهى البدائل إذا؟ ليس اختيار السياسات الرامية إلى خفض الدين العام أمرا سهلا، بل هو يتوقف على حالة المؤسسات فى كل بلد، وتاريخه ووضعه الاقتصادى. وعلى ضوء الخصائص التى يتصف بها الاقتصاد اللبنانى، بدءا من الفقر الشديد ومرورا بانعدام المساواة ووصولا إلى غياب الدولة، ثمة بدائل ملائمة أكثر من إجراءات التقشف المقترحة.
من شأن اعتماد ضريبة جديدة أبسط وأكثر تصاعدية على الدخل والثروات أن يشكل خطوة أساسية نحو تخفيض الدين العام بشكل فعلى. فالقاعدة الضريبية صغيرة فى الوقت الراهن، ومن السهل تجنُب تسديد الضرائب والتهرب منها. وتتمثل إحدى الإجراءات الأولية التى يمكن اتخاذها فى استبدال نظام الجدولة الراهن للضريبة على دخل الأفراد – الذى يقضى بفرض ضريبة على كل مصدر من مصادر الدخل على حدة – بضريبة عامة على مختلف مصادر الدخل، ولاسيما جميع أنواع الأرباح. ومن شأن ذلك أن يؤدى إلى تبسيط النظام وتسهيل جباية الضرائب. هذا فضلا عن أن النظام الضريبى المطبَق راهنا هو نظام تنازلى، ففرض ضريبة على كل مصدر من مصادر الدخل الفردى على حدة يُحقق إيرادات أقل مقارنة مع فرض ضريبة على مجموع المداخيل.
ويجب أن يترافق هذا الإصلاح مع رفع معدلات الضريبة المفروضة على الشطور العليا من المداخيل، ولاسيما أن هذه المعدلات تُعتبَر متدنية جدا وفقا للمعايير الدولية. وفى هذا الإطار، تُعَد الإجراءات المالية فى الموازنة الجديدة، التى تتضمن زيادة معدلات الضريبة المفروضة على الشطور العليا من الرواتب أو أجزاء من أرباح الشركات إلى 25 فى المائة، خطوة فى الاتجاه الصحيح، لكنها غير كافية. كذلك، من شأن رفع الضرائب على الشركات فى لبنان، وهى من بين الأدنى فى العالم، أن يساهم بسهولة فى زيادة الإيرادات العامة.
فى ما يتعلق بالثروات، من الوسائل الفعالة الأخرى لسد الدين العام فرض ضريبة استثنائية على رأس المال الخاص، ولاسيما على الأملاك العقارية. فعلى سبيل المثال، فى البلدان الثرية مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو الصين، تُشكل الرساميل الخاصة نسبة 600 فى المائة من الدخل الوطنى. وعليه، من شأن تطبيق ضريبة ثابتة بنسبة 5 فى المائة على الرساميل الخاصة أن يؤمن إيرادات وطنية مساوية تقريبا لمجموع الإيرادات فى سنة واحدة (90 فى المائة تحديدا). فى لبنان، يصعب تقدير قيمة مجموع الرساميل الخاصة، لكن عند النظر إلى بيانات «فوربس» حول ثروات أصحاب المليارات (وهو المصدر الوحيد المتوافر عن لبنان وعدد كبير من البلدان الأخرى)، يبدو أن أثرياء لبنان يبلون بلاء حسنا. وقد شكلت ثروتهم، فى المعدل، 20 فى المائة من مجموع الدخل الوطنى بين عامَى 2005 و2016، بالمقارنة مع 2 فى المائة فى الصين، و5 فى المائة فى فرنسا، و10 فى المائة فى الولايات المتحدة.
إذن، تستحوذ ثروات أصحاب المليارات اللبنانيين على حصة من مجموع الدخل الوطنى تفوق مثيلتها فى البلدان الثلاثة المذكورة، وهذا ليس مؤشرا على أن الثروات فى لبنان شديدة التركز وحسب، بل أيضا على أن مجموع الرساميل الخاصة باعتباره حصة من الدخل الوطنى، يناهز بل حتى يفوق على الأرجح مثيله فى فرنسا أو الولايات المتحدة أو الصين، حيث يُقارب 600 فى المائة من الدخل الوطنى. بعبارة أخرى، يمكننا أن نفترض أنه يمثل بين 400 و700 فى المائة من الدخل الوطنى، وهذا ليس مفاجئا نظرا إلى ديناميكية القطاعَين المصرفى والعقارى. وإذا أجرينا الحسابات نفسها وفقا لما ورد أعلاه، فمن شأن فرض ضريبة ثابتة على الثروات فى لبنان أن يؤمن 60 إلى 110 فى الائة من الدخل الوطنى، أى 30 إلى 60 فى المائة من مجموع الديون (يمكن إجراء الحسابات عبر الاستعانة بالبيانات المتوافرة فى قاعدة بيانات عدم المساواة فى العالم World Inequality Database).
***
للإصلاحات المالية الكبرى مزايا أساسية. فى الوقت الراهن، يفشل النظام الضريبى فى لبنان فى زيادة الإيرادات. يُشار هنا إلى أن الإيرادات الضريبية شكلت، فى الأعوام الأخيرة، ما معدله 15 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى، مقارنة مع 34 فى المائة فى بلدان منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. وتشكل الضرائب على المداخيل والثروات أقل من 6 فى المائة من مجموع إجمالى الناتج المحلى، وبالتالى يُعتبر المجال مفتوحا لزيادة الضرائب والإيرادات. ومن شأن هذه الإصلاحات أن تُفضى إلى مساهمة الجميع بالتساوى فى الجهود الآيلة إلى خفض الديون والحؤول دون تفاقم الفقر واللامساواة، ما قد يؤدى إلى أزمة اجتماعية وسياسية كبرى. لذلك، يجب أن تضع الحكومة هذه الإصلاحات فى صُلب أولوياتها.
النص الأصلى:من هنا