الحوار لا فرض الوصاية مفتاح الدستور التوافقى
إبراهيم الهضيبى
آخر تحديث:
السبت 10 سبتمبر 2011 - 9:00 ص
بتوقيت القاهرة
ثمة مخاوف جادة عند البعض من أن يخرج الدستور معبرا عن الأغلبية السياسية المؤقتة لا التوافق الوطنى الأكثر استقرارا، وهى مخاوف ينبغى التعامل معها بإدارة حوار يعمق الأرضية المشتركة لكى يخرج الدستور معبرا عنها، لا بفرض وصاية على الشعب من خلال المبادئ الدستورية التى يطرحها الآن مجلس الوزراء بمباركة المجلس العسكرى.
والحديث هنا منصب على ما صرح به نائب رئيس الوزراء من أن إعلانا دستوريا سيصدر بمجموعة من المبادئ الملزمة والحاكمة لعمل الجمعية التأسيسية، وهو فى تقديرى خرق للديمقراطية من جهتين، أولاهما أن الوزارة صاحبة الاقتراح هى وزارة تسيير أعمال غير منتخبة، وبالتالى فشرعيتها ــ وشرعية المجلس العسكرى معها ــ إدارية لا سياسية، بمعنى أن نطاق صلاحياتها إنما يشمل تسيير الأعمال فى المرحلة الانتقالية لا تقعيد القواعد المبتغى استقرارها فى المراحل اللاحقة لذلك، فتلك تحتاج لشرعية سياسية لا سيما إذا كانت تتعلق بالأصل الأول لقيام الدولة وهو الدستور.
وثانيتهما أن المقترح يشكل خرقا للإرادة الشعبية التى عبر عنها الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والاعتراض بأن الإعلان الدستورى قد نسف الاستفتاء مردود، إذ كانت المواد المستفتى عليها واضحة فى تحديد الخطوة الأولى لتسليم السلطة (وحددتها بانتخابات مجلس الشعب)، وضمانات نزاهة الانتخابات وبعض شروطها، وآلية وضع الدستور الجديد، وإذا كان البعض يرى أن الإعلان الدستورى قد تجاوز الإرادة الشعبية فى نقاط أخرى ــ كتوقيت الانتخابات وصلاحيات المجلس العسكرى ــ فإن المسعى الديمقراطى يكون بإعادة المسار إلى حيث الإرادة الشعبية لا بتكرار خرقها، وتحديد مبادئ ملزمة للجمعية التأسيسية من قبل جهة غير منتخبة هو خرق واضح لصلاحياتها التى أقرها الشعب فى الاستفتاء.
وثمة افتراض يستحق النظر وهو أن اجتماع القوى الوطنية أو غالبيتها وموافقتها على هذه المبادئ يعطيها من الشرعية ما يكفى لإصدارها فى إعلان دستورى تكميلى، وهو باطل، لأنه يفترض أن الأطراف صاحبة الحق فى تعديل ما نتج عن الاستفتاء هو المجلس العسكرى والحكومة الانتقالية (ولا أجد لأيهما من الشرعية ما يسمح بالتدخل فى أمر كهذا) والقوى السياسية المختلفة سواء الإسلامية أو غيرها، وهذا افتراض يستبعد طرفا رئيسا هو الشعب، أو ملايينه التى وافقت على التعديلات الدستورية، والتى لا يندرج أغلبها تحت أى من الأوعية الاجتماعية والسياسية سابقة الذكر أو غيرها، والتى هى وحدها صاحبة الحق الأصيل فى وضع دستورها بلا وصاية من أحد.
إن الخلاف حول المبادئ الدستورية ــ وإن بدا فى ظاهره خلافا بين قوى إسلامية رافضة لها وقوى أخرى مؤيدة لها ــ فهو فى جوهره ليس كذلك، إذ موافقة القوى الإسلامية عليه ــ لو حدثت ــ لن تعطيه الشرعية المبتغاة، وسيظل مفتقدا للشرعية الديمقراطية، ومعبرا فقط عن إرادة فوقية نخبوية.
فالخلاف فى جوهره إذا هو بين شعب يريد حقه الكامل فى تقرير المصير ديمقراطيا ونخبة ترى نفسها صاحبة حق فى فرض رؤيتها ووصايتها على الشعب بعيدا عن خياره الديمقراطى، أو على أحسن الفروض هى ترى نفسها أعلم من الشعب بمظان توافقه، ومن ثم تعطى لنفسها الحق فى فرض هذا التوافق بشكل لا ديمقراطى.
وأما مضمون وثيقة المبادئ فأتصور أن محتواها المتعلق بالهوية والانتماء العروبى والإسلامى لمصر، وكذلك المتعلق بالحريات الأساسية والحقوق المدنية يصلح أساسا لحوار ينهى حالة الاستقطاب، كونه محل توافق لأغلب القوى، وإن طرح للاستفتاء فأتصور أن غالبية المصريين ستقبله، بيد أن محاولة فرضه بإرادة فوقية بغير استفتاء سابقة خطيرة قد تكون عواقبها وخيمة بعد تسليم السلطة لجهة منتخبة.
وأما ما طرح من أدوار سياسية للمؤسسة العسكرية، أو لاستقلال يخرجها فى قراراتها عن الإرادة الديمقراطية للشعب بشكل مخالف لما عليه العمل فى الديمقراطيات، فذلك فى ظنى مما ينبغى التصدى له بحزم، كونه يمثل انتكاسا عما حققته الثورة من استعادة السيادة للشعب وإرادته الديمقراطية، وهو يعنى ــ فى التحليل الأخير ــ استمرار كون الحكم مرهونا بإرادة العسكر، أى القضاء على الديمقراطية قبل أن تولد.
وفى تقديرى فإن سلوك مسلك الوصاية على إرادة الشعب من شأنه تأجيج الخلاف بين اتجاهاته السياسية المختلفة، أو بين نخبه ومؤسساته السياسية من جهة وجماهيره من جهة أخرى، والحالة الأولى تنتج انقساما يفتح أبوابا واسعة لاستمرار أذرع النظام السابق التى لم تسقط وأهمها الأذرع الأمنية القمعية، والثانية تنتج انسحابا شعبيا من المشاركة السياسية ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، حيث كانت نسبة تواصل المواطنين مع الساسة هى الأدنى فى العالم بحسب استطلاعات جالوب، لأن الناس كانوا قد فقدوا الشعور بأن ما يدور فى الحياة السياسية يخصهم، وهذا من شأنه أيضا فتح أبواب واسعة للتسلط لغياب الرقابة الشعبية، وفى الحالتين فإن النتيجة النهائية هى تعطل معركة الثورة الرئيسة التى هى تحرير الإرادة المصرية واستعادة القرار الوطنى المصرى ليكون معبرا عن هوية وإرادة الجماعة الوطنية.
وأما ما لا يشق الصف فهو خيار الحوار، والذى يدور فى فلكين، أولهما يتعلق بتشكيل الجمعية التأسيسية بحيث يكون هناك تمثيل واسع للفئات المجتمعية المختلفة عن طريق إشراك النقابات والهيئات الدينية والاجتماعية وممثلين عن البيروقراطية فضلا عن الأحزاب السياسية فى الجمعية التأسيسية، وثانيهما الحوار حول المبادئ الاسترشادية للدستور، على ألا يفرض تشكيل الجمعية أو مبادئها الحاكمة فوقيا، بل يكون الاكتفاء بتوصيات تخرج معبرة عن الأطراف المشتركة فيها، أو فليعرض ما يتوصل إليه للاستفتاء، وهو فى تقديرى خيار مرجوح لاعتبارات واقعية.
إن الحوار المجتمعى لا ينبغى أن يقلق أحدا، فمؤشرات الرأى التى عبرت عنها استطلاعات جالوب تقول إن 88% من المصريين يؤمنون بالديمقراطية، و97% يريدون دستورا يكفل لجميع المواطنين الحق فى التعبير، و75% يريدون أن ينص الدستور الجديد على السماح لجميع المواطنين باعتناق الدين الذى يختارونه وممارسة تعاليمه ومعتقداته، و78% متسامحون ــ إن لم يكونوا مندمجين ــ مع الديانات الأخرى، وبالرغم من أن الأغلبية العظمى من المصريين تدافع عن الانتماء الإسلامى لمصر فإن 69% منهم يرغبون فى أن يقتصر دور «القادة الدينيين» فى الحياة السياسية على الدور الاستشارى.
هذه المؤشرات تشير لتسامح ووسطية تنفى الحاجة للتدخل الفوقى الوصائى لفرض دستور على قوم حرروا بلدهم بالثورة، فصار فرض شىء ــ أيا كانت صحته ــ عليهم عبثا، فيضاف انتفاء الحاجة لانتفاء الشرعية ليكون حجة داعية لرفض تلك المبادئ الدستورية المزمع إعلانها دستوريا، والإصرار على سيادة الشعب.