فى مقابلة معه نشرتها «الشروق»، صحيفتنا الغرّاء، قبل يوم من نهاية الأسبوع الماضى، تحدث رئيس لجنة القوى العاملة فى مجلس النوّاب عن موضوعات مهمّة منها تعديل الدستور «الذى يحمل عراقيل كثيرة تعطل مسيرة العمل فى الدولة»، ومدّ فترة رئاسة الجمهورية، وعدم قصرها على دورتين فقط بل «زيادتها وجعل مدة الدورات مفتوحة وليست مقيدة بحيث يحق للشخص الواحد الترشح طوال العمر ما دام الشعب يريده. كل موضوع من هذه الموضوعات يستحق التحليل والتعليق، ولكن ما يهمّنا اليوم هو ما ورد فى الحديث عن منظمة العمل الدولية. ضمن ما قاله رئيس لجنة القوى العاملة هو أنه لا يوجد شىء اسمه القائمة السوداء فى المنظمة، وهذا صحيح تماما، ولكنه أضاف أن المنظمة «تقود مؤامرات ضد مصر بدعم صهيونى لتشويه صورتنا أمام العالم فيما يخص العمل والعمّال، كما أنها ليست لها صفة من أساسه، ولا تملى قرارات على الدول، لكنها منظمة استخبارية تعمل لصالح بعض الدول العظمى ولا تلزمنا». لأن هذا كلام ليس هيّن المضامين، خاصة وأنه صادر عن نائب محترم هو أيضا رئيس الاتحاد العام لنقابات عمّال مصر، فإنه لا يصح أن يمرّ دون تعقيب.
***
منظمة العمل الدولية هى أقدم منظمات منظومة الأمم المتحدة، وهى سابقة على الأمم المتحدة ذاتها، فهى التى بقيت بعد الحرب العالمية الثانية من التنظيم الدولى الذى كان قائما فيما بين الحربين العالميتين. المنظمة نشأت مع عصبة الأمم فى سنة 1919، ودستورها هو الفصل الثالث عشر من معاهدة فرساى، أى اتفاقية السلام المنعقدة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. مؤتمر فرساى، نفس المؤتمر الذى وكّل الشعب المصرى وفدا لكى يطالب خلاله بإنهاء الحماية البريطانية على مصر وإعلان استقلالها، كان قد شكل لجنة للعمل بتأثير الحركة العمالية والنقابية فى أوروبا فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والأولى من القرن العشرين، وهى الحركة التى ناضلت من أجل تحسين علاقات العمل ورفع مستوى شروط العمل وظروفه بعد أن اختلت هذه العلاقات اختلالا خطيرا من جراء الثورة الصناعية. الفكرة الجوهرية فى إنشاء منظمة العمل الدولية، والتى ترد فى دستورها، هى أنه لا يمكن للسلام فى العالم أن يستتبّ بدون السلام الاجتماعى، والمفهوم أنه السلام الاجتماعى على مستوى النظام الدولى كله، وفى كل دولة من دوله.
بعض الباحثين والأكاديميين ذهبوا فى تفسير نشأة المنظمة إلى أبعد من ذلك، فهم رأوا فى نشأتها بعد عامين اثنين فقط من اندلاع الثورة البلشفية فى روسيا خطوةً تهدف إلى تفادى قيام الثورات فى بلدان أخرى عن طريق تحسين شروط العمل وظروفه تدريجيا وبالتشاور والاتفاق بين أطراف عملية الإنتاج والتبادل، أى أصحاب العمل والعمّال، بحضور الحكومات أو بدون حضورها حسبما يكون نظام علاقات العمل فى كل بلد من البلدان. ينعكس هذا المنظور لعلاقات العمل وللسبيل إلى تحسين شروط العمل وظروفه، على بنية منظمة العمل الدولية فهى المنظمة الدولية الوحيدة ثلاثية التكوين، بمعنى أن لكل دولة فيها ثلاثة أعضاء هى الحكومة، والمنظمات الممثلة لأصحاب العمل، والمنظمات الممثلة للعمال، أى النقابات العمالية.
فى مؤتمر العمل الدولى، وهو سنوى، فى وفد لكل دولة عضوان من الحكومة، ولكل من منظمات أصحاب العمل والعمال عضو واحد. وفى المؤتمر كما فى كل لجان المنظمة توجد ثلاث مجموعات هى مجموعة الحكومات ومجموعتا أصحاب العمل والعمّال، وإذا كانت كل حكومة تتحدث عن نفسها، فى إطار تنسيق للمجموعات الجغرافية، فإن لكل من أصحاب العمل والعمال ناطقا واحدا باسمهم يعبِّر عن مواقف موحدة لهم من القضايا المعروضة للمناقشة، يتفقون عليها فى اجتماعات تحضيرية تنسيقية سابقة على الجلسات العامة. يمكن لكل عضو فى أى من المجموعتين أن يطلب الكلمة ليعبّرَ عن موقف مختلف عن موقف مجموعته ولكن هذا قليلا ما يحدث.
***
لمنظمة العمل الدولية، مثلما لكل منظمة دولية أخرى، أمانة. الأمانة تحضّر أعمال مؤتمر العمل الدولى، ومجلس الإدارة، ولجان المنظمة، وتنفّذ قرارات المؤتمر ومجلس الإدارة وتسهر على احترام دستور المنظمة وتساعد الدول على ذلك، حتى لا تساءلها المنظمة، أى الحكومات ومنظمات أصحاب العمل والعمّال، عن سبب انتهاكها للدستور أو عدم اكتراثها بتنفيذ أحكامه. الكثيرون يخلطون وللأسف بين أمانات المنظمات والمنظمات نفسها. مكتب العمل الدولى هو أمانة منظمة العمل الدولية والمدير العام هو مدير عام لمكتب العمل الدولى، مثلما الأمين العام للأمم المتحدة هو رأس أمانتها. كان المتوقع أن يقلّ الخلط بالنسبة لمنظمة العمل الدولية لأن لأمانتها اسما مختلفا هو المكتب بينما هذا التمييز ليس موجودا فى المنظمات الأخرى. للمدير العام لمكتب العمل الدولى، مثلما للأمناء والمديرين العموم للمنظمات الأخرى، لديه نوع من حرية الحركة فى تفسير قرارات أجهزة المنظمة وفى تنفيذها، وفى الحرص على احترام الدستور وبلوغ أهدافه، وفى تحقيق التوافق بين الأعضاء، ولكن مساحة هذه الحرية تتوقف على السلطات التى يمنحها دستور المنظمة له وللمكتب، وعلى عملية اتخاذ القرار داخل المنظمة، ثم على توزيع القوى فى النظام الدولى الأوسع.
خذ مثلا مسألة ما تسمّيه الصحافة استسهالا «القائمة السوداء». بالفعل لا يوجد شىء اسمه قائمة سوداء، وإنما ما يحدث هو أن لجنة الخبراء المعنية بتطبيق اتفاقيات وتوصيات العمل الدولية، وهى لجنة مستقلة، تدرس حالات عدم احترام الدول الأعضاء لأحكام الاتفاقيات التى صدّقت عليها. تخرج اللجنة فى تقريرها السنوى بعدد ليس قليلا من حالات الخروج على الاتفاقيات فى الدول النامية والمتقدمة معا. ولأن مؤتمر العمل الدولى لا يستطيع النظر فى كل هذه الحالات، فإن مجموعتى أصحاب العمل والعمّال تجتمعان قبل انعقاده فى شهر مايو من كل عام، من غير الحكومات وبدون حضور مكتب العمل الدولى، لاختيار ما يناهز الخمسة والعشرين حالة لتشكيل قائمة قصيرة تعرض على المؤتمر وتدرسها لجنته المعنية بتطبيق معايير العمل الدولية. أقصى ما يمكن أن تصل إليه اللجنة هو أن تفرد فقرة فى تقريرها، الذى يصدر بعد ذلك باسم المؤتمر، لهذه الحالة أو تلك من حالات عدم احترام الاتفاقيات.
مكتب العمل الدولى لا علاقة له لا بالقائمة القصيرة ولا بأى فقرة تفرد لحالة من الحالات أو لا تفرد. من هو إذن الذى يلقى الدعم الصهيونى «لتشويه صورتنا أمام العالم»؟ العالم نفسه الممثل فى اللجنة، فأعضاء منظمة العمل الدولية 186 دولة لا يغيب عنها ــ مقارنة بالأمم المتحدة ــ إلا ست دول صغيرة جدا وكوريا الشمالية، هل العالم كله يلقى الدعم الصهيونى لكى يشوه صورتنا أمام نفسه؟ وإن كان يلقاه فى منظمة العمل الدولية فلماذا لا يمتد هذا الدعم الصهيونى أيضا إلى منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، وإلى اليونسكو التى قبلت دولة فلسطين فى عضويتها؟ أم أن منظمات أصحاب العمل والعمّال التى اتفقت على إدراج حالتنا فى القائمة القصيرة هى التى تلقى الدعم الصهيوني؟ هل منظمات أصحاب العمل والعمال فى العالم أجمع تلقى الدعم الصهيوني؟ وأى دعم تلقاه هذه المنظمات لإدراج حالات من كولومبيا وفنزويلا وإيران بل ومن المملكة المتحدة أحيانا فى هذه القائمة القصيرة؟ وهل كان الدعم الصهيونى أم أى دعم آخر وراء العقوبات التى أنزلتها المنظمة بميانمار منذ سنة 1999، فى سابقة لم تحدث منذ 1919 ولم تتكرر بعدها، لانتهاكها لاتفاقية العمل الجبرى رقم 29 لسنة 1930؟ وهل الدعم الصهيونى هو السبب فى الضغوط التى تمارس على قطر لإلغاء نظام الكفيل وتحسين ظروف العمل للعمال المهاجرين الأجانب فيها؟
***
بالطبع أى دولة لا تحبّ أن ترد حالة لها فى القائمة القصيرة ومن باب أولى أن يختصها تقرير المؤتمر بفقرة لأن مثل هذه الفقرة تؤثر فى سمعتها، وللسمعة أهمية كبرى فى التعاملات فى النظام الدولى. ولكن الأجدر بالدولة، أى دولة، أن تحرص على ألا تنظر لجنة الخبراء فى أى حالات انتهاك لاتفاقيات العمل الدولية تنسب إليها أصلا. ليس المقصود بهذا المقال جوهر موضوع إدراج مصر فى القائمة القصيرة كل بضع سنوات منها السنة الراهنة، ولكن لمجرد تعريف القارئ الكريم غير المطلع عليه فهو يتعلق بعدم احترام القانون المصرى لاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بالحرية النقابية، وهى من اتفاقيات المنظمة الأساسية الثمانى من ضمن اتفاقياتها التى تبلغ 189 اتفاقية. باختصار، هذه الاتفاقية، التى صدّقت عليها مصر سنة 1957، تنص على حرية أصحاب العمل والعمال فى التنظيم وإنشاء نقاباتهم والانضمام إليها، وعلى حريتهم فى إنشاء الاتحادات النقابية الوطنية وانضمام هذه الأخيرة إلى الاتحادات النقابية الدولية.
القانون المصرى القائم ينص، خلافا لذلك، على أن التنظيم النقابى هو تنظيم واحد لا يحق للعمال أن ينشئوا غيره. عملية إصدار قانون جديد يتفق مع أحكام الاتفاقية الدولية جارية منذ سنين وعندما يؤخذ رأى مكتب العمل الدولى فى مشروعات القانون فإنه يبدى ملاحظاته وهو يفعل ذلك من باب المشورة والمعاونة الفنية حتى لا تتعرض مصر للمساءلة من قبل أصحاب الحق فى المساءلة، وهم أعضاء المنظمة الممثلون فى المؤتمر. حتى الساعة وعلى الرغم من مرور السنين لم يصدر قانون يتفق مع ما التزمت به مصر عندما صدّقت على الاتفاقية.
تبقى مسألة أن المنظمة «لا تلزمنا». مصر عضو فى المنظمة منذ سنة 1936، وأول بعثة زارت مصر لتقديم مشورة فنية لها كانت فى سنة 1932، أى حتى قبل انضمام مصر إليها. المنظمة، وبالتالى المكتب، يجرى الدراسات ويقدم المشورة فى مجالات التشغيل وتنمية القوى البشرية والحماية الاجتماعية، ومنها الضمان الاجتماعى، أو التأمينات الاجتماعية بمصطلحاتنا، والسلامة والصحة المهنية، وتنظيم علاقات العمل، وإحصائيات العمل. فهل المقصود أن هذه المجالات لا تلزمنا؟ إننا جزء من المجتمع الدولى، وبالتالى لا بدّ أن نأخذ بقواعد تنظيمه، أم أنه يراد لنا أن ننعزل عن المجتمع الدولى وأن تكون لنا قواعدنا الخاصة بنا؟ كيف تستفيد من المجتمع الدولى، ونحن مثل غيرنا فى حاجة إليه، إن لم نحترم القواعد المنظمة له والتى اخترنا طواعية أن نخضع لها؟ مصر تنزل على قواعد النظام المالى والنقدى الدولى، فتخفض الدعم المقدم للسلع الاستهلاكية وتعوِّم عملتها، فلماذا لا تطبق أيضا قواعد نظام العمل الدولى؟ لا أحد يستطيع إرغام دولة من الدول على الانضمام إلى أى اتفاقية دولية، ولكن طالما انضمت الدولة إلى اتفاقية ما، فإنها ملزمة باحترامها احتراما فعليا.
الكل مجتمع قواعده ينبغى للفرد الذى يعيش فيه أن يلتزم بها. الأمر ذاته ينطبق على الدول فى المجتمع الدولى.