ملاحظات على المائة الأولى.. ومخاوف من المائة التالية
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 9 أكتوبر 2012 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
لا تعجبنى المعركة الإعلامية بين أنصار وخصوم الرئيس محمد مرسى حول تقييم المائة يوم الأولى من حكمه عن طريق قياس ما تحقق ــ أو لم يتحقق ــ من الوعود التى أطلقها قبيل انتخابه بشأن الخمس مشاكل الرئيسية التى تواجه المواطن (الأمن، المرور، الخبز، الوقود، والقمامة). ما لا يعجبنى أن الطرفين انشغلا بالخلاف حول أساليب القياس بالنسبة لهذه الملفات الخمسة فقط. خصوم الرئيس ركزوا انتقادهم على عدم حدوث تقدم كاف فى الملفات الخمسة، وهذا صحيح. ولكن كان يجب انتقاد الوعد بما لا يمكن تحقيقه بدلا من الدخول فى جدلية القياس لأن المشاكل التى وعد الرئيس بحلها لم تكن ــ من البداية ــ قابلة للحل خلال هذه الفترة الوجيزة سواء بهذا الرئيس وهذه الحكومة أم بغيرهما. أما أنصار الرئيس فقد اجتهدوا فى دفع التهمة بكل الوسائل الممكنة، مرة بالقول أن المائة يوم لم تبدأ إلا من تاريخ استبدال قيادات الجيش، ومرة بإرجاء صفارة البداية إلى تعيين المحافظين، ومرة بتوضيح أن المقصود كان الحوار حول حل المشاكل وليس حلها بالفعل، وأخيرا أعلن الرئيس بنفسه أن المشاكل قد حلت بنسب تتراوح بين ستين وثمانين فى المائة مدللا على ذلك بقياسات عجيبة، لو صدقت لكان الرئيس لا يحتاج إلا إلى حوالى أربعين يوما إضافية ينهى فيها عمله بالكامل.
والواقع أن المناقشة على هذا النحو قد صرفت أنظار الناس عن دلالات هامة يمكن أن تساعدنا على فهم أسلوب حكم الرئيس الجديد وربما المساهمة فى تطويره. وأقترح النظر فى موضوعين فقط، طبيعة الرئيس مرسى وأسلوبه فى الحكم ثم طبيعة العلاقة بينه وبين الحكومة التى اختارها.
فيما يتعلق بالرئيس نفسه، فلا شك أنه قد استلم الحكم فى ظروف صعبة بسبب فوزه بفارق ضئيل عن منافسه، والانقسام الواسع فى البلد، والشعور حتى لدى أنصاره بأنه كان المرشح البديل أو مرشح اللحظة الأخيرة. مع ذلك فقد تمكن بسرعة من أن يظهر بشخصية متميزة وقوية أكثر مما كان متوقعا، وأن تكون لديه القدرة على اتخاذ قرارات صعبة وحاسمة (على رأسها استبدال قيادات الجيش والأجهزة الأمنية)، وأن يبدى استعدادا للتواصل مع الجماهير والحديث إلى الناس بشكل مباشر يتجاوز الأسلوب المعتاد للمسئولين والسياسيين حتى من قيادات حزبه. والنتيجة أن الرئيس ــ فى تقديرى الخاص ــ قد نجح فى أن يسترد شعبية ودعما جماهيريا لحزب الحرية والعدالة ولجماعة الإخوان المسلمين بعد خسارة وتراجع كبيرين بسبب سوء الأداء البرلمانى للحزب فى فترة انعقاد مجلس الشعب. ولكن من جهة أخرى فإن الرئيس لم ينجح حتى الآن فى أن يقنع الرأى العام بأنه صار مستقلا عن جماعة الإخوان المسلمين، بل إن مظاهر سيطرة الإخوان على الدولة تتزايد يوما بعد يوم، ومن هنا القلق مما يسمى بظاهرة «أخونة الدولة». التعيينات المتوالية فى المناصب الإعلامية، ثم الأمنية، ثم فى المحافظات، والظهور المبالغ فيه لقيادات الحزب والجماعة فى مواقف لا تجوز (مثل ظهور رئيس مجلس الشعب المنحل بحكم قضائى فى طليعة رجال الدولة فى كل المناسبات)، والتصريحات التى تصدر عن قيادات حزبية وإخوانية فى قضايا يفترض أن يعبر عنها الرئيس أو حكومته وليس الحزب، وتحول أهم مناسبة وطنية ــ تحرير سيناء ــ إلى احتفال حزبى، كلها تؤكد ذات المعنى. كذلك فإن الرئيس، برغم تأكيده على أنه سيكون رئيسا لكل المصريين، لم ينجح فى إقناع قطاعات واسعة من الشعب بذلك. وقد عبر خطاب السادس من أكتوبر (الذى تحول لاحتفال بفوز جماعة الإخوان المسلمين فى انتخابات الرئاسة) عن هذه الإشكالية بوضوح. فالرئيس أنفق معظم خطابه فى شرح ما حققه من انجازات خلال مائة يوم والدفاع عن نفسه وعن حكومته وفى مهاجمة معارضيه وتهديدهم، بدلا من أن يكون خطابه فى مثل هذه المناسبة الوطنية جامعا للمصريين ومناديا بمصالحة بين الناس وداعيا لضم الصفوف. ولذلك فبقدر ما كان الخطاب حماسيا ومباشرا، إلا أنه كان أشبه بالدعوة لتعبئة الحزب والجماعة وحشد تأييدهم وراء الرئيس أكثر مما كان مناسبة لتوحيد المصريين تحت مظلة واحدة.
أما فيما يتعلق بأسلوب الحكم وبالعلاقة بين الرئاسة والحكومة، فهنا أرى أن خللا بالغا قد أصاب توازن الحكم فى مصر حيث صارت السلطة بأكملها فى يد الرئيس، بينما الحكومة لا تقوم إلا بدور المكتب التنفيذى. صحيح أن مؤسسة الرئاسة كانت دائما المهيمنة منذ بدء النظام الجمهورى فى مصر، إلا أن ما يحدث الآن يفوق ذلك بكثير. الرئيس تقف وراءه جماعة الإخوان المسلمين، وحزب الحرية والعدالة، والجيش والشرطة والمحافظون والإعلام، بينما الحكومة لا أحد يقف معها وكأن المطلوب هو دعم الرئيس وحده لا الحكومة التى اختارها. ولكى يزيد حجم الاختلال فقد عين الرئيس عددا من المستشارين والمساعدين بما يكفى لتشكيل حكومة موازية داخل قصر الرئاسة، والاهتمام الإعلامى بأكمله منصب على ما يفعله ويقوله الرئيس وليس الحكومة والوزراء. هذا خلل كبير لأن الوزارة فى النهاية هى التى تملك القدرة التنفيذية على أرض الواقع، وانحسار دورها يعنى استمرار حالة الشلل الحكومى والبطء فى اتخاذ القرارات اليومية وانتقال صناعة القرارات الإدارية المطلوبة لتسيير أمور الدولة من مجلس الوزراء إلى مقر الرئاسة وهو وضع غير سليم. ولعل ذلك يفسر ظواهر عديدة فى أسلوب حكم الرئيس، منها أنه قادر على اتخاذ قرارات خطيرة وحاسمة على المستوى السياسى (إلغاء الإعلان الدستورى المكمل، عزل قيادات هامة من الدولة والجيش) بينما الحكومة لا تقدر على اتخاذ القرارات العادية المطلوبة لتسيير شؤون البلاد. لعل ذلك أيضا يفسر لجوء الرئيس إلى نظام مواز لحل مشاكل الناس يكاد يتجاهل وجود حكومة ووزراء بالكامل، مثل إنشاء ديوان للمظالم، وإطلاق حملة شعبية لجمع القمامة، والاعتماد على قيادات حزبه فى نشر رسالته الإعلامية، وكأن الحكومة لا وجود لها. هذه قضية لا تتعلق بكون الحكم اسلاميا أم مدنيا، اخوانيا أم ليبراليا، فهو موضوع لا يرتبط بالفكر السياسى، وإنما بالتوازن بين مؤسسات الدولة وبأهمية تمكين الوزارات من القيام بدورها لمصلحة الوطن والمواطنين وبضرورة الخروج من تراث المؤسسة الرئاسية المتحكمة فى كل شئ.
نحن، باختصار، أمام رئيس جاء بشرعية صناديق الاقتراع التى تمكنه من العمل على إنشاء الجمهورية الجديدة على أسس مؤسسية وقانونية ودستورية سليمة، ولكنه حتى الآن يختار الاعتماد فقط على حزبه وعلى جماعته وعلى مؤسسة الرئاسة وحدها. هذا ما يستوقفنى فى المائة يوم الأولى وما ينبغى أن يقلقنا بشأن المائة يوم التالية لأنه بدون مؤسسات سليمة، وبدون إصلاحات جذرية فى منظومة الأجور والأسعار والتوزيع، فلا الخبز ولا المرور ولا الوقود سيتم حل مشاكلها ولو بعد مائة عام.