هنالك تقليد راسخ فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة قوامه أن كل رئيس يأتى فى بداية عهده بما يعرف بعقيدة استراتيجية تحمل اسمه. عقيدة تعكس رؤيته، تجاه مخاطر قائمة أو محتملة تحتل الأولوية على جدول الأهداف والمصالح الإستراتيجية الأمريكية. وللتذكير ببعض أهم هذه الإستراتيجيات غداة الحرب العالمية الثانية نشير إلى عقيدة ترومان أو استراتيجية احتواء الخطر السوفيتى على حدود تركيا واليونان، وعقيدة أيزنهاور لدعم الدول التى تواجه الخطر السوفيتى والشيوعية فى الشرق الأوسط، وعقيدة نيكسون لدفع الحلفاء الآسيوين إلى المشاركة بشكل أكبر فى الدفاع عن ذاتهم، وعقيدة كارتر القائمة على التهديد باللجوء إلى القوة عند الحاجة للدفاع عن المصالح الأمريكية فى الخليج، وعقيدة ريجان التى تمحورت حول الخطر السوفيتى فى أفغانستان ومواجهته، وعقيدة كلينتون أو عقيدة الاحتواء المزدوج ضد إيران والعراق، وعقيدة بوش الخاصة بأفغانستان أيضا، وعقيدة أوباما أو «القيادة من الخلف» خوفا من الإنجرار للغرق فى «المستنقع» الشرق أوسطى والأوكرانى.
مجمل هذه العقائد تمحورت بشكل أساسى حول الشرق الأوسط أو حول جواره المباشر مما يعكس مركزية الموقع الجغرافى الاستراتيجى لهذه المنطقة فى العالم خلال الحرب الباردة وبعدها أيضا إلى يومنا هذا. ولا بد من التذكير أنه فى لحظة معينة غداة انتهاء الحرب الباردة كان هنالك شعور أن مركز الثقل والاستقطاب الإستراتيجى فى العالم انتقل إلى منطقة «آسيا الباسفيك». لكن «الربيع العربى» الذى سرعان ما خطفته الصراعات الدولية والإقليمية من ليبيا إلى سوريا إلى اليمن بشكل خاص «ودولت» ما بدأ كمشكلة داخلية فى هذه الدول وغيرها أعاد الشرق الأوسط ليحتل المكانة التى كانت له كمركز الثقل فى الصراعات والمواجهات الاستراتيجية فى نزاعات تملك جاذبية كبيرة لكل أنواع التدخل وتحت مسميات مختلفة.
***
السؤال الذى يراود كثير من المراقبين قوامه هل سنشهد ولادة عقيدة ترامب وما هى ملامحها حاليا. الرئيس الأمريكى فى تصريحاته وخطاباته الحادة والصدامية والإيديولوجية أحيانا، كما شهدنا أخيرا فى كلمته فى الأمم المتحدة أظهر أنه تخطى منطق «الأمة التى لا يمكن الاستغناء عنها» الذى حكم وبرر سياسة الزعامة الأمريكية الدولية وتوظيف الإمكانات لخدمة هذا الدور.
اقترب من عقيدة ترومان لكنه بالطبع لن يقبل «بخطة مارشال» وتكاليفها وتضحياتها المادية لدعم استقرار الأصدقاء المهمين والضروريين. تراجع الدور الأمريكى ليس بجديد مع بدايات تبلور نظام عالمى متعدد الأقطاب ومع التراجع النسبى فى القوة الأمريكية فى مختلف أبعادها. ترامب يتمسك بأولوية «القومية الأمريكية» وبأمريكا أولا الذى يعنى عمليا اعتماد منطق انتقائى والتزاما محدودا ومتراجعا فيما يتعلق بالدور القيادى أو الرئيسى العالمى لواشنطن. الكاتب الأمريكى فريد زكريا يتساءل فى تعليقه على خطاب ترامب فى الأمم المتحدة إذا ما كان الرئيس أعلن الدخول فى «عالم ما بعد أمريكا» أو ما بعد الزعامة والريادة التقليدية الأمريكية الحاملة بالطبع لالتزامات وانخراط دولى ناشط. فالولايات المتحدة لن تستثمر امكاناتها لقيادة مكلفة لتحالف أو تحالفات تنتمى إلى الأمس القريب والبعيد. الأولوية القومية بمفهوم ترامب هى مزيج من الانعزالية النسبية والواقعية الشديدة والانتقائية الكبيرة فى ما يتعلق بالدور العالمى لواشنطن، ولو أن ترامب أيضا ينتقد خصومه أو أعداءه تحت عنوان غياب الديمقراطية والليبرالية عند هؤلاء، لكن يبقى «خطابه» الديمقراطى اللبيرالى شديد الانكشاف وفاقد المصداقية، رغم أن سياسة الكيل بمكيالين ليست جديدة فى السياسة الأمريكية أو فى سياسات القوى الكبرى. الشرق الأوسط يفترض أن يشكل المجال الإستراتيجى لبلورة عقيدة ترامب، لكن تبدو سياساته بعيدة عن ذلك حتى الآن. خطاب صدامى مع إيران وتهديد بالانسحاب من الاتفاق النووى ضعف مع ابتعاد القوى الكبرى الأخرى عن موقفه. خطاب لا يقدم استراتيجية واقعية إذ قد يطمئن بعض الحلفاء الإقليميين على المدى القريب ولكنه لا يوفر سياسة لخلق استقرار إقليمى طويل الأجل يضع ضوابط وقيودا على الدور الإيرانى. الحرب الكلامية ضد إيران والفشل فى اسقاط الإنفاق النووى خدم المصالح الإيرانية. كما أن اللجوء إلى استراتيجية أوباما، التى ينتقدها بشدة فى «القيادة من الخلف» فى المسألة السورية من خلال التفاهم والتنسيق بالقطعة مع موسكو وعرقلة قيام مجموعة اتصال حول سوريا لإبعاد إيران وعدم الانخراط فى مسار استانة كلها عناصر تهمش الدور الأمريكى. كذلك الأمر بالنسبة لغياب دور ناشط لرأب الصدع بين حلفائه فى الخليج وهو ما تستفيد منه إيران بشكل أساسى أيضا. إنها سمة أخرى فى سياسة تندرج فى مفهوم القيادة من الخلف.
***
وأخيرا وليس آخر عدم الانطلاق الجدى فى عملية تسوية القضية الفلسطينية كما وعد بسبب مواقفه وأولوياته التى هى على نقيض من شروط اطلاق ورعاية مفاوضات جدية. إن محاولة توظيف هذا الحراك خدمة لإستراتيجية المواجهة مع إيران لا تخدم مصالح واشنطن ولا حلفائها فى إقامة الاستقرار على المدى البعيد فى المنطقة.
ولا بد من الإشارة فى هذا السياق إلى أن زلماى خليلزاد السفير الأمريكى السابق فى الأمم المتحدة وفى بغداد وفى كابول وهو من الصقور سياسيا فى واشنطن اقترح استراتيجية كان يمكن حسب كتاباته أن تشكل عقيدة ترامب الشرق أوسطية. استراتيجية تقوم على مزيج من الاحتواء والانخراط cogagement أو فى كلام بسيط على مزيج من الجزرة والعصا. ولكن يبدو أن الرئيس الأمريكى لم يقتنع بعد بأهمية بلورة مقاربة شاملة وناشطة ومتكاملة خارج إطار المواقف والسياسات غير المترابطة وغير القادرة على إحداث التغيير المطلوب واحتواء وإنهاء حالة الفوضى المتفجرة والمدمرة التى تعيشها المنطقة.