ملفات ساخنة فوق مكتب الرئيس القادم
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 9 أكتوبر 2023 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
بينما يتطلع المصريون إلى انتخابات رئاسية عادلة هادئة، تعكس المزاج المصرى الرافض لنداءات التعصب والإثارة، يترقب العالم ما عساها أن تسفر عنه تلك الانتخابات من ترتيبات مؤثرة على الاقتصاد المصرى المأزوم، وعلى مختلف الملفات الإقليمية التى تلعب مصر دورا فاعلا فيها.
وإذ تنعدم فرص تحقق أى مفاجآت فى نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصة بعدما أعلن الرئيس السيسى عزمه الترشح لولاية جديدة، فإن مناط الترقب المشار إليه ليس فى شخص الرئيس القادم، بل فى طبيعة البرنامج الانتخابى الذى يتبناه الرئيس، ويلزم به الحكومات المكلفة طوال فترة الرئاسة القادمة، والتى هى أكثر الفترات دقة وحساسية منذ العام 2014 لأكثر من سبب: من ناحية، تعد فترة الولاية القادمة الفترة الأخيرة للرئيس السيسى وفقا للدستور، وعادة ما تشهد فترات الولاية الأخيرة لمختلف رؤساء العالم تحولات مهمة ودقيقة، واهتماما بنوع معين من الملفات التى تعكس أولويات الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس، وفى الحالة المصرية، فإن الرئيس لا ينتمى إلى حزب سياسى، وإن كان مدعوما بالعديد من تلك الأحزاب، لذا فمن المتوقع أن تتقاطع أولويات مؤسسة الرئاسة مع أولويات المؤسسة العسكرية التى انتمى إليها الرئيس قبل انتخابه فى عام 2014. ولأن المؤسسة العسكرية هى مؤسسة الوطنية الراسخة، فليس أقل من أن تحتل قضايا الأمن والاستقرار القومى بكل أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية نصيب الأسد من فترة الولاية المقبلة.
• • •
قد لفت انتباهى فى تعقيبات الرئيس السيسى فى مؤتمر «حكاية وطن» حرصه على استدامة المسار التنموى الذى عانت مصر من مقاطعته عبر مختلف العصور، وتقديرى أن تجاربنا التنموية التاريخية لم يكتب لها أن تكتمل كونها لا ترتبط بالشعوب ولا حتى بالمؤسسات، بل هى تجارب أشخاص، وفى أحسن الأحوال هى تجارب أسر حاكمة، كما الحال مع الأسرة العلوية وتجربتها الأطول عمرا والأكثر اكتمالا، لعدم حرص حكام أسرة محمد على على محو ما قام به الأب المؤسس ولا ورثته المتعاقبين، وإن كان حرصهم واضحا على تهميش الشعب.
ومن أبرز علامات ذلك الحرص على استدامة المسار التنموى، ما أكد عليه الرئيس من ضرورة عدم ربط التجربة بالفرد، وأن الاستقرار متى تحقق وقواعد الانطلاق تم تثبيتها بصورة مرضية فإن «أى شخص» يمكنه أن يجلس على كرسى الحكم. تلك العبارة التى كررها الرئيس السيسى لم تصدر عبثا، بل هى إشارة واضحة إلى ضرورة الانتقال من دولة الأفراد إلى دولة المؤسسات. لكن حتى يكتب لدولة المؤسسات أن تنمو وتزدهر وتستدام، فلابد من أن تكون تلك المؤسسات منتجا شعبيا قائما على دعائم الديمقراطية، حتى تصبح التجربة التنموية ملكا للشعب، وحتى يصبح على كل مواطن واجب حماية تلك التجربة التى لم تفرض عليه ولم تهبط عليه من السماء.
أولى تلك المؤسسات هى مؤسسة الرئاسة التى هى موعد مع الانتخابات الرئاسية، والتى يجب أن تتحقق فيها المشاركة الشعبية الواسعة حتى تكون معبرة عن الجمعية العمومية لمصر، وأن يتمتع تمثيلها للشعب المصرى بشرعية الاقتناء، وأعنى هنا اقتناء الشعب لمؤسساته، ومن ثم قيامه بحمايتها والذود عنها بكل السبل.
ولأن نظام الحكم فى مصر ليس برلمانيا بل هو نظام شبه رئاسى، فإن الاهتمام برأس مؤسسة الرئاسة مقدم شعبيا وعالميا على الاهتمام بالبرلمان بغرفتيه، أو بمؤسسة القضاء التى يجب أن تظل مستقلة بعيدة عن الحكم. وعليه فإن الولاية المقبلة يجب أن تقطع شوطا حاسما فى تهيئة المناخ العام للتعددية والتداول السلس والآمن للسلطة، بعيدا عن التخوين والتأليه والتشويه والصخب والتعدى.. وغير ذلك من مفردات أكد الرئيس السيسى فى المؤتمر المشار إليه أنه لا يسيغها ولو كانت تصدر بنية دعمه أو الرد على المسيئين إليه.
أما عن السبب الآخر للاهتمام الكبير بتلك الفترة الرئاسية على وجه الخصوص، فهو انطلاقها من نقطة زمنية يعبرها الاقتصاد المصرى بين أمواج متلاطمة من التحديات الداخلية والخارجية على الصعيدين الاقتصادى والأمنى. ولأن مختلف التحديات يمكن اختزالها فى ملفات الأمن الاقتصادى (الغذائى والمائى والوظيفى..) فسوف ألقى الضوء على أبرز التحديات الاقتصادية التى تنتظر الرئيس القادم.
فرئيس مصر المقبل عليه أن يتعامل منذ اللحظة الأولى لانتخابه مع أزمة تفاقم الديون التى تعانى منها مصر وكثير من الدول النامية منذ أن بدأ عصر الأموال الرخيصة فى الاختفاء، وراء تلال من قرارات رفع أسعار الفائدة من البنوك المركزية، فى محاولة من تلك البنوك للسيطرة على موجات التضخم الشرسة التى أطلقتها الجائحة وحرب أوروبا من عقالها. وقد تجاوز الدين المحلى لمصر 4 تريليونات جنيه، وتجاوز دينها الخارجى 165 مليار دولار، وتغل خدمة الديون من أيادى الحكومات المتعاقبة، إذ تلتهم أكثر من ثلث موازنة الدولة، وتهدر الكثير من احتياطى النقد الأجنبى الذى تعمل البلاد على تراكمه لسد العجز الخارجى (فى ميزان المدفوعات وتحديدا ميزان المعاملات الجارية) وهو ثانى التحديات المزمنة والمتفاقمة التى يتعين على الرئيس المقبل مواجهتها.
كذلك يواجه الرئيس المقبل معدلات تضخم سنوية تدور حول 40%. وهى معدلات مرتفعة تلتهم جانبا كبيرا من الدخل الحقيقى للمواطن، وتفرض عليه قيدا لا يمكن التعايش معه لفترات طويلة. تلك المعدلات مرشحة لمزيد من الارتفاع حال اتجاه مصر إلى تحريك سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى (للمرة الرابعة خلال عامين) تحت ضغط شح الدولار، واتساع الفجوة بين السعر الرسمى وسعر السوق الموازية للدولار فى مصر. الأمر الذى ينقلنا إلى تحدى الضغوط الدولية، فى سياق الشح الدولارى وعودة السوق السوداء للعملة الصعبة. وتلك الضغوط تتمثل فى انخفاض تدفقات رءوس الأموال من الخارج عن المستوى الذى يمكنه أن يعوض انخفاض الادخار المحلى من ناحية، ويزيد من تدفقات النقد الأجنبى من ناحية أخرى، ولو فى صورة أموال ساخنة (فى الأجل القصير). كذلك تأخذ تلك الضغوط صورة تخفيض منتظم فى التصنيف الائتمانى للديون المصرية، بما يرفع من تكلفة الاستدانة، ويضيف أعباء جديدة على المالية العامة. بل إن تخفيض التوقعات للنمو الاقتصادى المصرى بات أيضا خبرا شبه متكرر فى إصدارات مؤسسات تمويل كبرى، مثل البنك الدولى الذى خفض منذ أيام توقعاته للنمو فى 2024 من 4% إلى 3,7%، وهذا هو التخفيض الثانى خلال فترة قصيرة، حيث كانت توقعات النمو السابقة للعامين الماليين 2022/2023 و2023/2024 هى 4,5% و4,8% على التوالى وفقا للبنك الدولى، الذى قام بتخفيضها إلى 4% للعامين.
كذلك يأتى تأخر حسم الاتفاق مع صندوق النقد الدولى على القرض الأخير، الذى يتوقع أن يأتى بثلاثة مليارات دولار من الصندوق و14 مليارا من دول الجوار، ضمن أوراق الضغط التى تستند إليها قرارات الاستثمار الأجنبى، وتوقعات مؤسسات التصنيف الائتمانى. ولما كانت مراجعتا خبراء الصندوق للملف المصرى لشهرى مارس وسبتمبر الماضيين لم ينجزا فى الموعد المضروب لهما، فإن الكثير من التساؤلات تثار حول مدى اقتناع الصندوق بمستوى مرونة سعر الصرف فى مصر، ومدى نجاح برنامج تخارج الدولة من بعض الأصول التى تزاحم بملكيتها القطاع الخاص، وهذا الأخير تحقق فيه نجاح نسبى، شاهده التزام الدولة ببيع ما قيمته 1,9 مليار دولار من الأسهم قبل نهاية يونيو الماضى.
• • •
الرئيس المقبل عليه أن يستكمل المشروعات القومية التى بدأت وانتصف العمل بها، وبات من العبث الرجوع عنها، ومن المجهد للمالية العامة تمويلها فى ظل ظروف نقص العملة الصعبة. عليه أن يحدد الأولويات بدقة شديدة، وأن يتحرك فى ظل ما هو متاح من موارد، ولو على حساب تأخير بعض الطموحات والأحلام. عليه أن يتابع الحفاظ على معدلات التشغيل المتميزة التى تتمتع بها مصر اليوم، والتى نزلت بمعدلات البطالة من مستويات تزيد على 13% قبل عشرة أعوام إلى نحو 7% اليوم.
الرئيس المقبل عليه عبء اقتصادى كبير، ومحاط بأزمات وتحديات تغير المناخ، والحرب الروسية ــ الأوكرانية، وسياسات التشديد النقدى، وأزمات انعدام مرونة جانب العرض، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتراجع النمو فى الأخيرة، واضطراب سلاسل الإمداد عالميا، والاستقطاب الإقليمى والأممى الكبير.. عليه استثمار تجمع «بريكس» وغيره من كيانات إقليمية لتشكيل رؤية مشتركة لدول الجنوب، والتخلص من أزمات الديون بصيغة تفاهمية أممية، لا يترتب عليها مزيد من الأعباء أو التهديد بالتعثر.. عليه أن يستمر فى محاربة الإرهاب والتخلف والانفجار السكانى.. والعديد من التحديات التى تناولناها فى مقالات عدة، وسوف نتناولها بالتحليل وتصور الحلول فى مقالات مقبلة بإذن الله.