العقلانية والحرية والعدالة
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 9 نوفمبر 2016 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
لو كان لابد من الإشارة إلى أهم ثلاثة جوانب فى الثقافة العربية، والتى تحتاج إلى الاتفاق على تعريفها، والمرجعية الرئيسية التى تنطلق منها، وأهم مكوناتها وأهدافها، والنتائج التى ستنتج جراء ممارستها فى الواقع العربى.. فإننى شخصيا سأشير إلى الجوانب الثلاثة التالية: العقلانية والعدالة والحرية.
لا توجد كلمات يكثر اللغط من حولها وتكثر الانقسامات حول مفاهيمها أكثر من هذه الكلمات. ولم تستطع القرون ولا الألوف من الكتب التى كتبها المئات من المفكرين عبر تلك القرون تكوين تيارات مجتمعية مهيمنة ونافذة تأخذ غالبية العرب بفهمها لتلك التعابير، وبالتالى يتبنى أغلب العرب الثقافة التى تضم تلك التعابير الثلاثة.
ومن هنا يأتى عدم تجذر تلك التعابير فى الثقافة العربية، مما يجعلها ثقافة قابلة للاختراق والتلاعب بها وادعاء البعض بعدم قابليتها للتعايش مع الحداثة ومع متطلبات عصرنا الذى نعيش.
أبرز ما فى هذه الكلمات الثلاث هو ترابطها واعتماد وجود كل منها على وجود الآخرين. فالعقلانية لا يمكن أن تمارس فى مجتمع لا تقوم فيه الحياة على حرية العقيدة والتفكير والبحث. والحرية تحتاج إلى العقلانية والعدالة لمنع إمكانيات شططها وانقلابها إلى عبث ضار بالإنسان والمجتمع. والعدالة تظل تطبيقاتها ناقصة فى مجتمعات لا تمارس العقلانية ولا تعيش أجواء الحرية.
***
لو نقلنا موضوعنا إلى الواقع العربى لرأينا كيف أن غياب واحد من الجوانب الثلاثة فى أية لحظة تاريخية قد قاد إلى الكثير من الاخفاقات وحتى الفواجع.
فمثلا، لقد توفرت فجأة مساحات كبيرة من الحرية السياسية والاجتماعية فى بداية الحراكات الناجحة للربيع العربى فى العديد من الأقطار العربية. لكن عدم تجذر مفاهيم وممارسات العقلانية والعدالة فى حياة شعوب ومجتمعات تلك الأقطار قد قاد لارتكاب الكثير من الأخطاء والخطايا فى ممارسة الحرية التى توفرت آنذاك.
والأمر نفسه حكم ما جرى من حراكات شعبية ضد الاستبداد والفساد فى ليبيا وسوريا واليمن، على سبيل المثال، إذ غاب التوازن وغابت الضوابط فيما بين الحرية المنتزعة وبين ممارسة العقلانية والعدالة والانصاف. وها نحن نعيش إلى يومنا هذا نتائج ذلك الغياب المطلوب فى الثقافة السياسية العربية.
وقد وصلت تلك الفاجعة فى خلل الموازين إلى القيمة فى الأراضى التى غزتها وحكمتها القوى الجهادية التكفيرية، إذ غاب وجود أى من الجوانب الثلاثة إلى ممارسة إسلام بعيد كل البعد عن الرسالة الإلهية التى نزلت على نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وحتى فى الواقع الفكرى السياسى العربى تظهر فداحة غياب فهم مجتمعى مشترك لتلك المفاهيم الثلاثة. فاللغط حول موضوعى الشورى والديمقراطية وحول موضوعى الرأسمالية والاشتراكية وحول الخلافات المذهبية وحول مكانة وحرية المرأة، هذا اللغط سيظل معنا لقرون أخرى طالما أن تلك الجوانب لم يحسم أمرها فى العقل الفردى وفى العقل الجمعى.
***
ما يوجع القلب هو أن ما يسود الحياة العربية هو ممارسة عكس تلك التعابير الثلاثة. فالذى يسود هو اللاعقلانية والعبودية وأشكال لا حصر لها من المظالم.
من أجل إصلاح الثقافة العربية، وعلى الأخص السياسية منها. أصبح لزاما بناء فهم مجتمعى مشترك، وإلى حد معقول، حول المرجعية الأساسية لتلك الجوانب الثلاثة، حول مكوناتها وأهدافها الإنسانية، حول ضرورات توازنها عند التطبيق وحول النتائج التراكمية المنتظرة.
ولعل مؤسسات المجتمع المدنى السياسية والثقافية والاقتصادية العربية تدرك بأن الحديث عن الديمقراطية وعن التنمية الاقتصادية وعن ولوج عصر العلوم والتكنولوجيا، بل وحتى عن وحدة الأمة السياسية، سيكون حديثا مليئا بالثغرات وإمكانيات الانتكاسات ما لم يواز تلك الأحاديث وجود المحاولة التى نتحدث عنها.
وتوجد أسئلة كثيرة فى ذهن الإنسان العربى حول تلك الكلمات الثلاث، وهى تحتاج إلى إجابات معقولة شبه متفق عليها، وذلك قبل أن تصبح مفاهيم تلك الكلمات جزءا أساسيا من ثقافته.