فى وداع محمد أبو الغيط
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
كنت أقطع المسافة بين واشنطن وبيروت، حين علمت بخبر رحيل محمد أبو الغيط عن دنيانا. اقتحمتنى مشاهد وتفاصيل ذكريات كان قليلها فى القاهرة وقليل منها فى لندن وعددها الأكبر مكنتنا منه الهواتف النقالة والوسائط الإلكترونية.
القصر العينى، القاهرة، ٢٠١٢: بنداء رقيق وابتسامة جميلة استوقفنى محمد صبيحة يوم صيفى فى الشارع وعرفنى بنفسه، فلم أكن قد التقيته شخصيا من قبل وإن كنت حينها أتابع كتاباته الصحفية. بعد عبارات التحية والتقدير المتبادلة، قال لى محمد إنه استوقفنى فقط ليشكرنى على عملى السياسى والإعلامى ويتمنى لى التوفيق. قلت له إن هذه هى المرة الأولى التى يستوقفنى فيها أحد فى القاهرة لكى يشكرنى وأن ابتسامته الجميلة ستصحبنى بقية اليوم.
بهو فندق، لندن، ٢٠١٦: كنت فى زيارة إلى لندن لإلقاء محاضرة والمشاركة فى لقاءات تليفزيونية. قبل زيارتى، تواصلت مع محمد الذى كان قد ذاع صيته عن حق وتميز كصحفى استقصائى بارع ومتابع جيد للشئون العربية والأوروبية. ذكرته بنفسى وطلبت منه أن نلتقى، فرحب بعبارات تقطر تواضعا ورقيا وتطلعا إلى اللقاء. وحين وصلت لندن فى ذلك الشتاء فى ٢٠١٦، مرّ علىّ محمد ليلا مصطحبا معه زوجته الفاضلة وابنه الذى كان فى عربة الأطفال نائما وبعض الأصدقاء من المصريات والمصريين. أمضينا بضع ساعات بين سير على الأقدام وتوقف لاحتساء المشروبات الساخنة فى أماكن مغلقة وحديث لا يتوقف عن أحوال بلادنا وأحوال العرب وظروف اللاجئات واللاجئين والمرتحلات والمرتحلين منهم، وعن بريطانيا التى كانت وقتها تغادر الاتحاد الأوروبى وأوضاع الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت أغلبيتها قد انتخبت دونالد ترامب رئيسا آنذاك.
فى تلك الليلة، أبهرنى محمد مجددا بدماثة أخلاقه ورقة طباعه وابتسامته الجميلة. وتعرفت إلى جانب من جوانب حياته المهنية كصحفى مدقق يستمتع بطرح الأسئلة ولا يتحدث فى أمر من أمور السياسة والعالم دون معلومات ولا يصم الأذن عن الاستماع إلى الحقائق التى قد تخالف قناعاته ولا يقصى الآراء المغايرة لرأيه. فى تلك الليلة، أحببت محمد وأحببت أسرته وتمنيت له ولزوجته ولابنهما دوام السعادة والصحة.
• • •
مكالمات هاتفية، بين سان فرانسيسكو ولندن، ٢٠١٦ إلى ٢٠٢٠: منذ ليلة لندن، لم ينقطع التواصل بين محمد وبينى. هاتفته مرات لتهنئته على أعمال وجوائز صحفية كان يحصدها عن استحقاق وجدارة، وهاتفنى مرات ليناقش معى بعض الأفكار التى كانت ترد فى كتاباتى. وحين أقرت الحكومة المصرية بسيادة المملكة العربية السعودية على جزيرتى تيران وصنافير وكان لمحمد موقف معارض للخطوة المصرية ولى موقف معترف بالسيادة السعودية على الجزيرتين بعد دراسة تفصيلية للوثائق القانونية سجلتها فى كتابات صحفية هنا على صفحات الشروق وطالبت بها بإدارة حوار مجتمعى واسع حول الأمر، تحدثنا طويلا. وأشهد أن محمدا كان بين نفر قليل للغاية من المعارضين الذين استمعوا إلى وجهة نظرى وطلبوا نسخا من الوثائق التى اعتمدت عليها ورفضوا التورط إن فى خطاب التخوين أو فى إطلاق اتهامات زائفة بتأييد بيع الأرض المصرية التى كانت آنذاك رائجة للأسف.
مكالمات عبر وسائط إلكترونية عديدة بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٢: مرض محمد بالخبيث كما كان يسميه، وعرفت عن مرضه من أصدقاء مشتركين. هاتفته قبل بدايات العلاج والتدخلات الجراحية الكثيرة داعيا له بالشفاء ومتمنيا له التفاؤل فى مواجهة أصعب ما يمكن أن يواجهنا كبشر، أن نعرف أن وجودنا فى هذه الدنيا قد يتوقف قريبا. لم يكن صوته متماسكا، بل كان حزينا ومتشائما وخائفا، وعبّر عن ذلك بإنسانية لا زائفة ولا مدعية. قال لى محمد إنه سيبحث عن شفاء من الخبيث ويحاول التعايش معه لزوجته وابنه ولذاته وسيراقب جسده وروحه وهما فى رحلة العلاج. ومن رحم تلك التجربة ومن خلال تسجيل وقائعها ولد كتاب محمد الأخير «أنا قادم أيها الضوء» الذى نشرته دار الشروق قبل أيام قليلة.
بدأت خطوات محمد العلاجية وتارة كانت صحته الجسمانية والنفسية فى تحسن وتارة فى تدهور. وبينما أنا أواصل الاطمئنان عليه بين الحين والآخر وبينما دنيانا تواجهنا بجائحة عالمية تغير ملامح حياتنا وتواجه المرضى بيننا بتحديات إضافية خشيت منها على صديقى (كتوقف علاج مرضى السرطان فى عديد المستشفيات وتأخر إجراء العمليات الجراحية اللازمة لمنع انتشار الخبيث)، ألفيت محمد يهاتفنى ليطلب منى أن أشارك معه فى «بودكاست ١١» الذى كان يسجله وينشره عبر وسائط إذاعية متنوعة. وافقت على الفور، وعملت معه على الإعداد للحلقة، وتسجيلها فى جو من الصراحة التامة والشفافية الكاملة والحوار دون مسلمات مسبقة وجميعها خصائص كانت فى جوهر تكوين محمد الإنسانى والصحفى وفى قلب ما تطور عبر السنوات الماضية بيننا كصداقة عن بعد.
أسعدتنى رغبة محمد فى مواصلة عمله ومقاومة المرض من خلالها والتمكين للعلاج عبر يوميات مقاومة لا استسلام.
• • •
مكالمات هاتفية ورسائل صوتية أخيرة، ٢٠٢٢: عدت إلى معشوقتى مصر فى صيف ٢٠٢٢، وعدت إلى الكتابة على صفحات الغالية الشروق قبل أيام من الرجوع الحلو إلى الوطن. وعلى الرغم من أن صديقى كان فى واحدة من أصعب فترات مرضه، إلا أنه لم يبخل على بالتهنئة على العودة والتعبير عن سعادته لسعادتى ولم يوفر فى تقديم النصح السديد والمشورة المخلصة والتعبير عن الدعم. حينها توقفت طويلا أمام إنسانية محمد الحقيقية والرائعة التى ألزمته وهو على فراش المرض بالوقوف إلى جانبى والتواصل معى، حينها توقفت طويلا أمام طباع محمد النقية والرقيقة التى دفعته إلى مساندتى ومساندة كل عائد إلى الوطن بعد غياب كان هو يعلم يوميات وتفاصيل قسوته على قلوب تعشق مصر وتهيم بترابها.
ثم كان التبادل الأخير بين صديقى وبينى للرسائل الصوتية قبل أسابيع من رحيله. خشيت أن أهاتفه، وكنت أعرف أن صحته الجسمانية قد عادت إلى التدهور. فتركت له رسالة صوتية أبلغه السلام والدعاء وأمل اللقاء القريب، فقد كنت أرتب لمحاضرة فى لندن قبل انتهاء العام الحالى. بعد مرور أيام أدركت خلالها مدى سوء حالته، فهو لم يكن أبدا يتأخر فى الرد، وصلتنى رسالة صوتية من محمد بدأها بصوت منهك للغاية بالشكر على السؤال وعلى التواصل وتابع بتفاصيل عن صحته الجسمانية والنفسية كان واضحا منها قرب نهاية رحلته فى هذه الدنيا.
بكيتك فى صمت يا محمد بين الأرض والسماء، بكيتك وتمنيت أن تستقر روحك حيث تجد الضوء الذى بحثت عنه، بكيتك وتمنيت أن تعلمنى ذكرياتى معك ويعلمنى كتابك شيئا من إنسانيتك وتواضعك ورقتك وصدقك.
وإنى على فراقك يا محمد لفى حزن عظيم.