استدامة النموذج الكورى الجنوبى

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 9 ديسمبر 2024 - 6:15 م بتوقيت القاهرة

  فى سابقة لم تعرفها بلاده منذ عام 1980، أعلن الرئيس الكورى الجنوبى يون سوك يول، قانون الأحكام العرفية؛ مؤججًا أضخم اضطرابات تشهدها تجربتها الديمقراطية الحديثة نسبيًا. وبرر الرئيس المأزوم قراره، المنبعث من يأسه؛ باعتزامه توظيفه لإعادة بناء بلد حر وديمقراطى عبر حماية النظام الدستورى، والإطاحة بالعناصر الموالية لكوريا الشمالية، المسلحة نوويا، والتى لا تزال سيول فى حالة حرب معها رسميًا منذ نهاية الحرب الكورية عام 1953.

تزامن قرار، يون، الصادم مع احتدام محنته السياسية. فعلى وقع تفاقم الغضب الشعبى جراء سوء إدارته للاقتصاد، تورطه فى الفساد هو وزوجته وبعض كبار مساعديه، مع إعاقته إجراء تحقيقات مستقلة بهذا الخصوص. تهاوت شعبيته إلى 19% فقط، وفق أحدث استطلاع لمعهد جالوب. وبينما ترافق إعلان، يون، مع اتهام المعارضة بالتورط فى أنشطة مناهضة للدولة والتخطيط للتمرد، لم يوضح طبيعة تلك الأنشطة أو المخططات، كما لم يُقدم دليلًا محددًا بشأن تواطؤهم مع كوريا الشمالية، بوصفها قوة مزعزعة لاستقرار بلاده. مؤكدًا التزامه الخط الصارم ضدها، باعتباره السبيل الأمثل لمنع بيونج يانج من تنفيذ تهديداتها النووية ضد سيول.

بينما يواجه، يون، منذ توليه منصبه عام 2022، صعوبة فى تمرير أجندته، عبر برلمان تُهيمن عليه المعارضة، التى تمتلك 170 مقعدًا، فيما يملك حزبه 108 مقاعد فقط من إجمالى 300؛ اشتعل الخلاف بين الجانبين حول الميزانية العامة. حيث أقرّ نواب المعارضة مؤخرًا، مقترح ميزانية مخفّضة للعام المقبل؛ بعدما اقتطعت نحو 2,8 مليار دولار من الميزانية التى اقترحها رئيس الجمهورية. إذ قلصت مخصصات صندوق الاحتياط الحكومى وميزانيات النشاطات لمكتب الرئيس، الادعاء، الشرطة ووكالة التدقيق التابعة للدولة. بدوره، اتهم، يون، نواب المعارضة باقتطاع الميزانيات الضرورية لوظائف الدولة الأساسية، لا سيما مكافحة جرائم المخدرات والحفاظ على السلامة العامة. ما حول البلاد إلى ملاذ آمن للمخدرات ومرتع للفوضى فى السلامة العامة.

•  •  •

تسلط تجربة التحول الديمقراطى بكوريا الجنوبية، الضوء على دور الجماهير فى تحريك ذلك التحول، ترسيخ دعائمه واستدامته. فبعدما قدمت تضحيات هائلة لإشعال جذوته فى سبعينيات القرن الماضى، حتى أدركته عام 1988؛ تأبى الجماهير الكورية الجنوبية، لا سيما الشباب و«الجيل Z»، الذى ولد وترعرع فى ظل مناخ الديمقراطية، إلا مواصلة المسيرة، وإجهاض أية محاولات لتقويضها. فبينما اشتبك المئات أمام البرلمان مع قوات الأمن المكلفة حماية المبنى وهم يهتفون «أوقفوا، يون سوك يول»، دعا الاتّحاد الكورى لنقابات العمّال، وهو أكبر اتحاد عمّالى فى البلاد، إلى إضراب عام، حتى استقالة الرئيس. وردًا على إعلان الأخير الأحكام العرفية، التى ألغيت بعد ست ساعات، قدم طاقم المكتب الرئاسى، استقالاتهم بشكل جماعى.

من جهته، اعتبر زعيم حزب قوة الشعب الحاكم قرار الرئيس فرض الأحكام العرفية «مأساويًا»؛ داعيًا إلى محاسبة كل المسئولين عن المحاولة الفاشلة للنيل من الديمقراطية؛ كما طالب الرئيس بمغادرة الحزب وتقديم استقالته.

بعيد سويعات من إعلان الأحكام العرفية، عقد البرلمان، الذى يهيمن الحزب الديمقراطى المعارض على 170 من مقاعده الثلاثمائة؛ جلسة عامة، حضرها 190 نائبًا، مرروًا خلالها تشريعًا يقضى برفع الأحكام العرفية. فبموجب الدستور، يتعين على الرئيس الاستجابة لطلب الأغلبية البرلمانية رفع الأحكام العرفية، التى يغدو إعلانها باطلًا ولاغيًا، بمجرد تمرير هكذا تشريع. وبالتوازى، تحركت المعارضة، صاحبة الأغلبية البرلمانية، لعزل الرئيس، جراء انتهاكه للدستور. فرغم اعتذاره الصادق، بدأ الحزب الديمقراطى، تحريك دعوى قضائية بتهمة التمرد، ضدّ الرئيس، وزيرى الدفاع والداخلية وشخصيات محورية بالجيش والشرطة. فيما فتحت الشرطة تحقيقا معهم، بتهم التمرد، إساءة استخدام السلطة ومنع الآخرين من ممارسة حقوقهم.

•  •  •

شأنها شأن غالبية دول العالم الثالث، تنضح التجربة السياسية الكورية الجنوبية بدور محورى للجيش فى العملية السياسية. فمنذ أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، دأب رهط من القادة الكوريين الجنوبيين، على استدعاء خطر التهديد الكورى الشمالى مرارًا، ابتغاء احتواء المنشقين المحليين والمعارضين السياسيين. ولم يتورع رؤساء سابقون عن فرض الأحكام العرفية، لمنع المظاهرات المناهضة للحكومة. ولكن منذ تبنى النهج الديمقراطى عام 1988، أضحى التدخل العسكرى فى السياسة الكورية الجنوبية من قبيل المحرمات. وبمجرد إعلان الرئيس الحالى الأحكام العرفية، كلف رئيس هيئة الأركان العامة فى الجيش بمهمة الإشراف على تنفيذها، نشر قواته لهذا الغرض، وإصدار مرسوم بتجميد الحياة السياسية. كما حاصر الجيش مبنى البرلمان وأغلقه، وحطّت مروحيات عسكرية على سطحه؛ ودخل جنود ملثمون المبنى لفترة وجيزة. وفى مسعى منه للجم تورط الجيش فى السياسة، أعلن الحزب الديمقراطى المعارض عزمه مساءلة وزيرالدفاع، الذى حمله مسئولية الإيعاز للرئيس بفرض الأحكام العرفية، توطئة لتأسيس ديكتاتورية تعيد النفوذ السياسى للجيش. الأمر، الذى اضطر الوزير إلى الاستقالة، قبل أن يمثل للتحقيق أمام الادعاء العام، الذى منعه من السفر. وبحسب، راشيل كلاينفيلد، خبيرة الأمن القومى بمؤسسة كارنيجى للسلام الدولى، يعد فرض الأحكام العرفية بمثابة انقلاب على الشرعية، يستعصى على الديمقراطيات الرخوة الصمود أمامه.

•  •  •

تعد سيول من الحلفاء الأساسيين لواشنطن، إذ تستضيف حوالى ثلاثين ألف جندى أمريكى، كما تشكل ركنًا ركينًا فى الاستراتيجية الأمريكية للتحول الاقتصادى عن الصين، وعضوًا فى تحالفها المضاد لمحور الصين، روسيا، كوريا الشمالية وإيران. ومن ثم، حرصت واشنطن على إنجاح النموذج الديمقراطى التنموى بكوريا الجنوبية فى مواجهة كوريا الشمالية، التى تزامنت الأزمة مع دخول معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة، الموقعة بين كوريا الشمالية وبين روسيا، حيز التنفيذ. وفى مسعى لجعلها نموذجًا لدول الجنوب، دعمت واشنطن استضافة سيول القمة العالمية للديمقراطية فى مارس 2024. ولقد أبدى البيت الأبيض ارتياحه لانحسار الأزمة بعد تراجع الرئيس، يون، عن فرض الأحكام العرفية. حيث تعى واشنطن أن فقدان كوريا الجنوبية مكانتها كركيزة للاستقرار السياسى وحليفًا يعتمد عليه، سيشكل ثغرة خطيرة فى الاستراتيجيتين الأمريكية والأطلسية حيال منطقة المحيطين الهندى والهادئ.

تطرح الأزمة  تساؤلات مثيرة بشأن مآلات ما اصطلح على تسميته «المعجزة على نهر الهان». تلك، التى تحققت عبر مواءمة عبقرية ما بين الإصلاحات السياسية، التى ساعدت على اجتذاب الاستثمارات العالمية، وحزمة السياسات الاقتصادية الهادفة إلى: التوجه نحو التصدير وتقليص الاعتماد على الاستيراد والمساعدات الخارجية. ففى حين تواجه الديمقراطية غير الراسخة تحديًا تاريخيًا، يتعثر مسار النمو لرابع أضخم اقتصاد بالقارة الآسيوية. وكنتيجة اقتصادية مباشرة لإعلان الأحكام العرفية، سجل الوون الكورى أكبر تراجع مقابل الدولار الأمريكى منذ عام 2022. كما تقلصت قيمة الأصول المالية وصناديق الأسهم الكورية المتداولة ببورصتى لندن ونيويورك، بنسبة 5.1%. وتزايدت المخاوف من انعكاسات أجواء عدم اليقين السياسى على سلاسل الإمداد والتوريد، فى ظل تزامنها مع اضطرابات جيوسياسية، جراء اندلاع نزاعات مسلحة وتوترات سياسية فى 56 بقعة حيوية حول العالم.

بينما يهدد الرئيس الأمريكى المنتخب ترامب، بإجراءات حمائية قاسية، تنذر بإشعال حروب تجارية مع الشركاء الذين تعانى بلاده عجزًا تجاريًا معهم، كمثل الصين، أوروبا، كندا والمكسيك. وتتلاقى الأزمة السياسية مع تحذير البنك المركزى من تباطؤ معدلات النمو السنوية، بما يلقى بظلاله على المستقبل الاقتصادى لبلد تواجه المحركات التقليدية لذلك النمو، مثل التصدير والتكتلات الصناعية الضخمة، تحديات متفاقمة. وتحاصر البلاد أزمة ديمغرافية وشيكة، إثر توقعات بانكماش السكان فى سن العمل، وتراجع الناتج المحلى الإجمالى. كما لا تزال الشكوك قائمة بشأن قدرة البلاد على تسخير الفرص المرتبطة بالذكاء الاصطناعى فى مجال أشباه الموصلات، وسط القيود الهيكلية القائمة، الجمود السياسى، خنق الإبداع، عدم المساواة الاجتماعية والفوارق الإقليمية.

•  •  •

إلى حد بعيد، نجحت كوريا الجنوبية فى إثبات أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها، من خلال الآليات الدستورية. فسرعان ما تم وأد الاستقطاب السياسى، لتجنب مآلات عدم اليقين، عبر إلغاء الأحكام العرفية، بعد ست ساعات فقط من فرضها، بفعل الضغط الشعبى والتصويت البرلمانى. الأمر، الذى يعجل باستعادة ثقة المستثمرين فى الاقتصاد والأسواق المالية، كما يعزز فرص استدامة نموذج المعجزة على نهر الهان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved