لماذا عاش جمال عبدالناصر؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 10 يناير 2016 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

لم تكن زيارته رسمية للقاهرة، وصلها فى صمت وغادرها فى صمت.

طرأت فكرة زيارتها أثناء مشاركته فى أعمال قمة «عدم الانحياز» بشرم الشيخ قبل سبع سنوات.
ذكرياته القديمة دعته إلى العاصمة المصرية.
تذكر إلهام حرب السويس عام (١٩٥٦)، وهو يتأهب مع «فيدل» و«تشى» من فوق جبال «سيرا ماستيرا» لدخول العاصمة «هافانا» وفى وجدانه صدى صوت «جمال عبدالناصر»: «سنقاتل».
كان النموذج المصرى موحيا بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم«قناة السويس» وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد فى المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعبا رئيسيا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.
بدت القاهرة هذه المرة مختلفة، السياسات تناقضت والأحلام تراجعت، لكنه ظل مسكونا بمجدها الذى كان، وذكرياته التى لا تغادره.
عندما التقيته فى أحد فنادق القاهرة المطلة على النيل بادرنى بكلمة واحدة رددها مرتين بصوت مدو تغلبه المشاعر على طريقة التعبير اللاتينية: «ناصريانو».
بدا الرئيس الكوبى «راؤول كاسترو» الذى صعد لمنصبه للتو، محتفيا بالمعنى والتاريخ والدور الذى لعبه «جمال عبدالناصر».
الرؤى ذاتها سكنت رجلين آخرين من طراز استثنائى: «فيدل كاسترو» و«تشى جيفارا».
كان «فيدل» هو قائد الثورة الكوبية و«تشى» أيقونتها و«راؤول» مسئولها العسكرى الأول.
الثلاثة الكبار التقوا «ناصر»، كل فى ظرف مختلف ولمرة واحدة.
«فيدل» ــ فى نيويورك على هامش اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان اللقاء بتوقيته ومكانه حدثا بذاته.
و«تشى» ــ فى القاهرة والحوار امتد حول الثورة وفلسفتها ووحدة المصير الإنسانى.
و«راؤول» ــ فى القاهرة منتقلا مع الرئيس المصرى إلى الإسكندرية للاحتفال بالعيد العاشر لثورة (٢٣) يوليو.
المثير ــ أولا ــ فى القصة اللاتينية أن صورة «جيفارا» فى التاريخ فاقت حجم دوره.
لم يكن دوره بحجم «فيدل كاسترو» فى الثورة الكوبية، ولا يقارن تأثيره بالأدوار الكبرى التى لعبها «فلاديمير لينين» فى الثورة السوفييتية، أو «ماو تسى تونج» فى الثورة الصينية، أو «هوشى منه» فى الثورة الفيتنامية، والقائمة تطول وتمتد إلى قامات دولية أخرى لعبت أدوارا أكثر تأثيرا وأوسع نفاذا.
لماذا عاش «تشى جيفارا» أطول فى الذاكرة الإنسانية؟
لأنه ببساطة لخص فى شخصه وتجربته «قوة النموذج الإنسانى»، فهو «أرجنتينى» دعته فكرة الثورة إلى الحرب فى كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعا.
فكر أن يقاتل فى أفريقيا و«ناصر» نصحه ألا يفعل ذلك حتى لا يبدو طرزانا جديدا.
حاول أن ينظم حروب عصابات فى أكثر من بلد لاتينى حتى استقرت به مقاديره فى أحراش بوليفيا التى لقى مصرعه فيها مصلوبا.
تماهت صورته الأخيرة مع فكرة «المسيح يصلب من جديد» التى تمثلها الروائى اليونانى «نيكوس كازنتزاكيس» وألهمت أجيالا متعاقبة.
وأسطورته استندت على قوة النموذج الإنسانى لرجل آمن بقضيته لم يساوم عليها ومات فى سبيلها.
المثير ــ ثانيا ــ فى القصة اللاتينية أن الثورة الكوبية ألهمت حرب العصابات الثورية وبدت نموذجا فى لحظات أخرى للتطور التقنى فى مجالات علمية متعددة، غير أن التطورات التى لحقتها مازجت بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية ووحدة القارة وتحررها.
الخروج من التبعية فكرة مهيمنة فى الفكرين السياسى والاقتصادى اللاتينى و«نظريات التبعية» التى سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة يعود أكثرها إلى اقتصاديين لاتينيين.
فهم كمجتمعاتهم مهجوسون بأحوالها التى أفضت إلى انقلابات عسكرية ومجازر دموية على النحو الذى جرى فى «تشيلى» لإجهاض تجربة «سلفادور الليندى» على يد الجنرال «بينوشيه».
إنه إذن التحول التدريجى البطىء الراسخ من حرب العصابات إلى الدولة الديمقراطية الحديثة.
حرب العصابات استدعتها الأنظمة الفاشية والوسائل الديمقراطية تهيأت لها ظروف استجدت مكنت اليسار اللاتينى من الوصول إلى السلطة فى دول عديدة.
المثير ــ ثالثا ــ فى القصة اللاتينية، أن التأثير الناصرى بدا عميقا فى قوى اليسار التى عانت طويلا ومريرا من الانقلابات العسكرية، دون أن تستشعر تناقضا، فهى تدرك أن الدور الذى لعبه الجيش المصرى فى يوليو يناقض أدوار الجيوش اللاتينية فى انقلاباتها العسكرية التى جرت باتفاقات وصفقات مع الإدارات الأمريكية لقمع شعوبها ونهب مواردها.
قوة النموذج الإنسانى عند «جمال عبدالناصر» أضفت عليه منزلة استثنائية فى قصة القرن العشرين.
نجح بتأميم قناة السويس أن يضع مصر فى قلب التفاعلات الدولية والإقليمية.
بدأ فى بناء السد العالى، الذى حمى مصر من الجفاف أو الفيضان فى أوقات مختلفة، وأضاف ملايين الفدادين إلى الرقعة الزراعية، وأحدث طفرة هائلة فى طاقتها الكهربائية.
أنشأ الصناعات الثقيلة والمستشفيات والمدارس ووصلت خطوط المياه والكهرباء إلى كل بيت.
كان عهده هو عهد البناء الكبير.
قل ما شئت فى نقد التجربة الناصرية، لكنك لا بد أن تعترف أن مصر لم تشهد فى تاريخها كله منذ فجر الضمير الإنسانى عدالة اجتماعية تماثل ما جرى فى عهده.
بحس تاريخى هتف المصريون فى جنازته: «من بعدك هنشوف الذل».. وقد كان.
صاغ تجربته فى عصرها، أحلامه لاحقتها معاركه وجسارته صنعت زعامته.
لا يولد شىء من فراغ ولا تجربته ولدت من عدم.
هو ابن الوطنية المصرية فى لحظة تحول حاسمة، قيادته للعالم العربى لا مَن ولا إدعاء فيها، تخطئ وتصيب لكنها تصدق ما تقول ويصدقها الآخرون.
كانت القاهرة العاصمة المركزية للعالم العربى، ولم يكن هناك شىء مجانى، فللأدوار تكاليفها وللنهضة شروطها.
كان الدور المصرى فى تحرير الجزائر واليمن ومطاردة الإمبراطوريات الغاربة فى مشرقها العربى علامات لتجربة تدرك حقائق الدور فى محيطه، لديها مشروع تلتزمه لا ادعاءات تكذبها التصرفات.
لم تكن الملايين التى تخرج لاستقباله فى العواصم العربية التى زارها تشارك فى حفلات علاقات عامة، بل كانت تعتقد أنه قائدها إلى المستقبل، تؤمن بحلمه وتمضى معه.
عندما انكسر فى عام (١٩٦٧) خرجت التظاهرات فى عواصم عربية تطالبه بالبقاء وتدعو لمواجهة العدوان بنفس الهتافات التى شهدتها مصر يومى (٩) و(١٠) يونيو من هذا العام الحزين.
كانت القاهرة فى عهده عاصمة تحرير القارة الإفريقية، أوسع عملية تحرير فى التاريخ الإنسانى كله.
برزت من حوله قيادات إفريقية تاريخية من حجم «نكروما» و«لومومبا» و«نيريرى» و«سيكوتورى»، وهو ما دعا الزعيم الجنوب أفريقى «نيلسون مانديلا» أن يصفه بـ«زعيم زعماء إفريقيا».
«مانديلا» الذى قضى نحو (٢٧) عاما معتقلا فى السجون العنصرية سيعيش طويلا بتجربته وقوة نموذجه فى الذاكرة الإنسانية على النحو الذى جرى مع «ناصر» و«تشى».
إلهام النموذج يقتضى إيمانا بوحدة المصير الإنسانى.
عمل «ناصر» على إعادة صياغة العلاقات الدولية، وأسس مع الزعيم الهندى «جواهر نهرو» والزعيم اليوغسلافى «جوزيف تيتو» حركة «عدم الانحياز» لتجنب الانصياع لإحدى القوتين الكبريين، الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتى.
سأله «نهرو» ذات مرة: «لماذا تصف مصر بأنها دولة نامية؟.. مصر دولة كبرى يا سيادة الرئيس».. فأجابه: «دولة كبرى بعالمها العربى».
هذه العبارة تلخص رؤيته لمصر ومكانتها فى عالمها، فمصر داخل حدودها بلد منكشف فى أمنه القومى، ومصر منفتحة على عالمها العربى بلد قوى ومهاب.
مات مبكرا وعاش طويلا، رحل عن الدنيا فى الثانية والخمسين من عمره عام (١٩٧٠)، لكن حضوره مازال طاغيا رغم الحملات الضارية التى تطارده حتى الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved