الضرائب وخرافة نهاية الطبقة الوسطى
سامر سليمان
آخر تحديث:
الأربعاء 10 فبراير 2010 - 11:57 ص
بتوقيت القاهرة
ما أكثر الخرافات الشائعة في مصر.
ليسمح لي القارئ الكريم أن أسلط الضوء اليوم على خرافة تم النفخ فيها لتلعب مع فريق المعارضين للضرائب العقارية. إنها خرافة نهاية الطبقة الوسطى المنتشرة كالنار في الهشيم.. تفتح التليفزيون فتجد الضيوف يتحسرون على نهاية الطبقة الوسطى، تقرأ الجرائد فتجد مقالات تنعى غياب الطبقة الوسطى، تتحدث مع الناس عن الخريطة الطبقية وعن الهرم الاجتماعي فيقولون لك في النهاية إن الهرم لم يعد به منتصف، فالطبقة الوسطى قد اندثرت.
إذا كانت الطبقة الوسطى قد ماتت، فمن هم أصحاب السيارات الهيونداى والتويوتا وغيرهما من التى يدور سعرها حول 100 ألف جنيه والتى نراها تزداد يوميا فى شوارع مصر؟ أليس ملاك هذه السيارات هم من الطبقة الوسطى؟ وإذا كانت الطبقة الوسطى قد اندثرت، فأين نضع على الخريطة الطبقية أصحاب الشاليهات والشقق فى المنتجعات السياحية على البحرين المتوسط والأحمر؟ أين نضع سكان المدن الجديدة الراقية مثل الرحاب؟ كيف نصنف رواد المقاهى الجديدة «الكافيهات» ورواد المولات؟
إذا كان مستوى الدخل هو معيار التصنيف الطبقى فوجود الطبقة الوسطى فى مصر يفقأ العين ولا ينفع معه التحجج بأن بيانات توزيع الدخل فى مصر ضعيفة.
أما إذا كان معيار التصنيف الطبقى ليس فقط الدخل وإنما أيضا الشهادة الجامعية وطبيعة النشاط الاقتصادى، فالطبقة الوسطى الحديثة أكيد موجودة. وإلا كيف لنا أن نصنف الأطباء والمهندسين والمحامين والمحاسبين وأساتذة الجامعة والمعلمين وغيرهم؟ وإذا كانت الطبقة الوسطى قد ماتت فأين نضع الشرائح الوسطى التقليدية من تجار وأصحاب المحلات والورش؟
التغير الأهم الذى حدث للشرائح الوسطى طوال العقود الماضية ليس اندثارها وإنما «انفجارها». هناك شرائح من الطبقة الوسطى جارت عليها التغيرات الاقتصادية وسياسات الدولة فتدهور دخلها ومكانتها، وهناك شرائح أخرى استفادت وحسنت من أوضاعها.
ما يهمنا اليوم بالأساس، تلك الشرائح الميسورة من الطبقة الوسطى سواء الحديثة المتعلمة أو التقليدية، تلك الشرائح التى استقالت من المجال العام والسياسة إلى الحد الذى يدفعها إلى إنكار الوجود. فليس انتشار خرافة ساذجة مثل نهاية الطبقة الوسطى فى مصر إلا دليل على أن هذه الشرائح تتخفى.
وعندما يطرق المجتمع أبوابها، هى لا ترد، وإنما ترسل مندوبين عنها فى وسائل الإعلام لكى يقولوا.. «معلش. البقية فى حياتكم. الطبقة الوسطى ماتت». وهذا ما يحدث بالتحديد فى الصراع على الضرائب العقارية التى ترفض الشرائح الوسطى الميسورة دفعها.
وهذا ما حدث ويحدث فى الضرائب على الدخل. فالدولة تمسك بتلابيب أصحاب الأجور فقط من الطبقة الوسطى. هؤلاء ليس لهم من مخرج لأنهم يدفعون الضرائب من المنبع، وهم غالبا لا يعلمون ما يساهمون به فى الحصيلة الضريبة والتى بلغت أكثر من ثمانية مليارات جنيه العام الماضى.
أما شريحة المهن الحرة فيقتصر اسهامها على 292 مليون جنيه. تخيلوا؟ هل يعقل أن تقتصر مدفوعات الميسورين من الأطباء والصيادلة والمحامين والمهندسين وغيرهم على هذا المبلغ الزهيد؟ هل يصح أن تقتصر اسهامات التجار والصناع على 9.4 مليار جنيه علما بأن عددهم أكثر من خمسة ملايين ممول وأن منهم من يحظى بدخل يضعه على حافة الثراء الفاحش. الحقيقة التى لابد أن نصارح أنفسنا بها هى أن التهرب الضريبى موجود فى بعض شرائح الطبقة الوسطى كما هو موجود عند رجال الأعمال.
لقد انصرفت الطبقة الوسطى عن الدولة، وأصبح شعارها الأساسى هو «لا نريد منها عسلا وبالتالى لن نقبل منها قرصا». لا نريد تعليم الدولة، سنرسل أولادنا إلى مدارس خاصة.. ولا نريد موصلاتها، سنركب سيارات خاصة.. ولا نبغى علاجها، فلدينا مستشفياتنا وعياداتنا الخاصة. هذا هو المنطق الفردى هو أحد أسباب خراب المجتمع. فالحلول الفردية أحيانا ما تكون تكلفتها باهظة على الكل. والمثال البارز هنا سيكون المواصلات التى خربتها الحلول الفردية.
فالمدن المحترمة تعتمد أساسا على شبكة عامة من المواصلات جنبا إلى جنب مع السيارات الخاصة. لكن اليوم تعتمد مصر أساسا على النقل الخاص، من سيارات وميكروباصات، وكلنا نعرف نتائج ذلك على الكفاءة المرورية وعلى الزحام والفوضى فى الشوارع. ألم يكن من الأفضل للمجتمع أن ينفق على تطوير المواصلات العامة من خلال الدولة عوضا عن النمو السرطانى لوسائل النقل الخاصة ذات التكلفة الباهضة على الشوارع وعلى البيئة؟.
لقد تبنت الطبقة الوسطى فى الممارسة مفهوم دولة الحد الأدنى التى لا تتدخل إلا فى أقل الحدود، التى بشر بها الفكر الاقتصادى المحافظ. واليوم يتضح أكثر فأكثر أن الرهان على تقليص وظائف الدولة بأقصى قدر ممكن هو رهان فاشل، لأن هناك وظائف لا يمكن أن تقوم بها إلا الدولة، وهناك وظائف لو قام بها القطاع الخاص، لكانت تكلفة ذلك على المجتمع كله باهظة.
لقد أدركت قطاعات متزايدة من رجال الأعمال أن الدولة مهمة لرعاية أعمالها، وهذا ما يفسر بالمناسبة التسييس الذى أصاب العديد من رجال الأعمال ودفعهم إلى مزيد من الاهتمام بالسياسة والفوز بمواقع فى مؤسسات الدولة المختلفة وعلى رأسها البرلمان.
أما الطبقات العاملة والشعبية فهى تظل مؤمنة بدور الدولة رغما عنها وتظل محتاجة إلى خدماتها ودعمها مهما تدهورت هذه الخدمات لأنها لا تقدر على الحل الفردى. أما آن الوقت لأن تدرك بعض شرائح الطبقة الوسطى أن الحلول الفردية أحيانا مستحيلة وأحيان أخرى مخربة؟.
من الطبيعى أن يؤدى التناقص الحاد فى إيرادات الدولة الريعية من عائدات بترول وقناة سويس ومساعدات خارجية إلى التفات الدولة نحو الشرائح الوسطى طالبة منها المزيد من الضرائب. ومن الطبيعى أيضا أن يناور هؤلاء الناس كى لا يدفعوا، سواء بادعاء موت الطبقة الوسطى، أو بالإشارة ــ الصحيحة ــ إلى فساد الدولة وسوء خدماتها وعدم شرعية المجموعة التى تحكمها.
هذا الصراع على الضريبة سيفيد البلد لو أسفر عن التزام هؤلاء بالمساهمة فى تمويل الدولة، وفى نفس الوقت وبالتوازى إصرارهم على مراقبة أداء القائمين عليها والضغط من أجل أن يتولى مسئوليتها أناس منتخبون يتحلون بالكفاءة والنزاهة. لقد استقالت الشرائح الوسطى فى مصر من السياسة لعقود عديدة. على الصراع مع الدولة على الضرائب يكون حافزا لكى تعود تلك الشرائح للاهتمام بالسياسة والمساهمة فى إصلاح الدولة.