(عدوى البوتوماك) تصيب القاهرة

سمير كرم
سمير كرم

آخر تحديث: الأربعاء 10 فبراير 2010 - 10:13 ص بتوقيت القاهرة

 البوتوماك :هو النهر الذى تقع على ضفته الشرقية العاصمة الأمريكية واشنطن، التي شيدت فى عام1791. وكان يشكل الحدود بين الشمال والجنوب الأمريكيين إبان الحرب الأهلية التى استمرت من1861 إلى 1865، ولا تزال إلى اليوم وعلى كثرة الحروب، التى خاضتها أمريكا تتصدر قائمة هذه الحروب من حيث عدد القتلى الذين سقطوا فيها.

الشبه كبير للغاية بين البوتوماك والنيل، خاصة فى القسم الواقع على عاصمتي البلدين، إلا في الطول. فإن طول نهر البوتوماك لا يتجاوز الـ 500 كيلومتر. ومن حيث الاتساع فإنه يعطى الانطباع نفسه، الذى يعطيه النيل فى اتساعه على موقعه على ضفتيه فى القاهرة.

أما أكثر جوانب الشبه فتتمثل فى الأبنية الجميلة على النهرين. في القاهرة أجمل فنادق العاصمة المصرية ومبنى التليفزيون ودار الكتب الجديدة ومبنيي وزارة الخارجية القديم والجديد.. وفى واشنطن العاصمة هناك مبنى مركز كيندى الثقافي، والنصب التذكاري للنكولن والنصب التذكاري لتوماس جيفرسون، بل إن مبنى «البنتاجون» أضخم مبنى حكومي فى العالم لا تفصله عن ضفة البوتوماك إلا عدة أمتار.

أما «حمى البوتوماك» فليست مرضا عضويا، إنما هي حالة الهوس، التي تصيب المسئولين والخبراء والسياسيين، الذين يأتون إلى العاصمة الأمريكية للمرة الأولى فى حياتهم ويكتشفون أن وجودهم فيها فرصة عظيمة للكلام، كل أشكال الكلام المباح.. خطب وتصريحات وبيانات ومقالات لا تحصى ولا يمكن إسكاتها. والسبب هو درجة القرب من السلطة ونفوذها ودرجة الرغبة فى التأثير عليها. يحدث هذا بعد سنين طويلة يظلون فيها مجهولين فى ولاياتهم. وما أن يحتل الواحد منهم منصبه أو مركزه فى العاصمة بالانتخاب أو التعيين حتى يجد أن أى تصريح يدلى به يتحول إلى بيان سياسي مهم تنشره الصحف ومعه صورته. ومن هنا تبدأ رحلة استخدام وسائط الاتصال على أوسع مدى.

إذا أردنا الإيجاز نقول أن «حمى البوتوماك» هى حمى الرغبة العارمة لدى هذه الشخصيات فى أن ترى اسمها مطبوعا فى الصحف ومذاعا بوسائط الإعلام المسموعة والمرئية. لهذا وصفها بيل مويرز الإعلامي الأمريكي البارز، عندما كان سكرتيرا صحفيا للرئيس ليندون جونسون فى ستينيات القرن الماضى، بأنها: «مرض تضخم الذات»، الذى يجعل هؤلاء يأخذون أنفسهم مأخذ الجد المفرط. ومن بين أعراضه حسب وصف مويرز: «الشعور المفرط بالغيظ خاصة من الصحفيين، وغيرهم من مثيرى الشغب، وقصر النظر الذى يخلق ضبابية فى الرؤية عن بعد، والحساسية المفرطة للنقد سواء كان مبررا أو غير مبرر».

مع الوقت لم تعد «حمى البوتوماك» تصف فقط المسئولين والسياسيين والخبراء.. أصبحت تصف أكثر من هؤلاء أولئك الذين يعملون فى «اللوبى»، أى جماعات الضغط التى تحاول ممارسة التأثير على المواقف والقرارات والاتجاهات، التى تصدر عن أجهزة السلطة الأمريكية ابتداء من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والكونجرس بمجلسيه.

هذا هو المدخل الطبيعي إلى محاولة فهم مغزى المعلومات التى نشرتها «الشروق» (الأربعاء 3/2/2010)عن مبالغ بملايين الدولارات دفعتها الحكومة المصرية أو دفعها أفراد مقتدرون فى قمة هرم السلطة فى الحكومة والحزب الوطنى لشركات العلاقات العامة وغيرها من جماعات الضغط (اللوبى) الأمريكية بهدف تحسين صورة الحكومة (المصرية) فى واشنطن.

وقد ذكرت «الشروق» فى هذا السياق أنه «وفقا للتعاقد بين الحكومة المصرية وإحدى تلك الشركات فان الشركة مسئولة عن تقديم تحليلات وتقارير أسبوعية للسفارة (المصرية فى واشنطن) تعرض للتطورات السياسية وما يتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية. كذلك نص العقد على أن تقدم الشركة ورقة بيضاء مرتين فى السنة توضح أولويات وأهداف الحكومة المصرية لدعم العلاقات مع واشنطن. وكذلك دعم زيارات المسئولين المصريين لواشنطن، عن طريق ترتيب تلك الشركات لمقابلات الوفود الرسمية المصرية الزائرة لواشنطن مع أعضاء الكونجرس ومساعديهم».

والسؤال الذى يقتحم الذهن مباشرة فور قراءة هذه المعلومات هو: أليس هذا أحد بل أهم جوانب واجبات السفارة المصرية فى واشنطن، بل أى سفارة معتمدة من أى دولة لدى أخرى؟ والإجابة هى بالتأكيد نعم. وإذا لم تكن السفارة تؤدى هذه المهام فإنها تكون مقصرة تماما فى أداء واجباتها السياسية والدبلوماسية. وفضلا عن هذا فان التقارير التى تكتبها شركة أمريكية لا يمكن أن تعكس التفكير المصرى ولا المصالح المصرية بصورة صادقة ومباشرة.. خاصة إذا كانت السفارة المصرية تبنى تقاريرها إلى وزارة الخارجية فى القاهرة على ما تقوله تقارير الشركة الأمريكية.

هذه ناحية. أما الناحية الأخرى ــ وهى اشد خطورة ــ فهى أن السفارة المصرية، ومن عداها من مسئولين مصريين فى القاهرة، لجأوا إلى هذه الشركات ودفعوا لها ملايين الدولارات فى واشنطن للترويج لمؤتمر الحزب الوطنى (المصرى الحاكم) إنما تقع ضحية «حمى البوتوماك»، حيث أصبح المسئولون المصريون وقادة الحزب مهووسين بذكر أسمائهم على قوائم الشركات، التى تروج لأسمائهم وعلاقاتهم مع «اللوبى» جماعاته وأفراده. لقد تحول «اللوبى» إلى صناعة كاملة تمارس مهمات العلاقات العامة التى تروج لأسماء معينة فى أوساط السلطة الأمريكية متمثلة فى البيت الأبيض أو فى الكونجرس.

ومعنى هذا أن الحكومة المصرية ــ وكذلك المسئولين فيها وفى الحزب الحاكم الذين يدفعون ــ إما لا يدركون إلى أى حد أصبحت لعبة «اللوبى» فى واشنطن سيئة السمعة، وان سوء السمعة قد طال كل الذين يعملون فى هذه الصناعة. وربما لا تعلم ولا يعلمون أن وزارة العدل الأمريكية تعتبر هذه الشركات رسميا عملاء لأجانب»، لأنهم يتقاضون مكافآت مقابل العقود، التى يبرمونها مع حكومات أجنبية لكتابة التقارير لها أو الدعاية لزوارها المقبلين إلى واشنطن.

ومعنى هذا أيضا أن الحكومة المصرية ومعها هؤلاء لا يعرفون أن اللوبى الصهيونى (أو سمّه اليهودى أو الإسرائيلى) لا يدفع أموالا لمثل تلك الشركات لأنه لا يريد أن يحاسب ويعامل كعميل أجنبى لدولة إسرائيل. إن منظمات اللوبى الموالية لإسرائيل فى واشنطن لا تعمل إطلاقا من خلال السفارة الإسرائيلية، وتصر على صفة الأمريكى والأمريكية فى أسمائها: «لجنة الشئون العامة الإسرائيلية الأمريكية» (الايباك)، «المؤتمر اليهودى الأمريكى»، «الوكالة اليهودية الأمريكية»، «مؤتمر المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى»، «المعهد اليهودى الأمريكى لشئون الأمن القومى» إلى آخر الطابور الطويل من منظمات اللوبى الصهيونى التى نعرف مدى قوة نفوذها على الحكومة الأمريكية بفرعيها التنفيذى والتشريعى.
لهذا فإن هذه المنظمات تقف على قدم المساواة مع منظمات «اللوبى» الأمريكية الخالصة، التى تعمل لمصالح فئات أمريكية محددة مثل لوبى الأطباء، لوبى أصحاب المعاشات، لوبى المهندسين، لوبى تجار الأدوية.. إلخ

ولقد نمت صناعة اللوبى ــ بوجهيها الأمريكى والأجنبى ــ فى أمريكا إلى حد أصبحت توصف بأنها «المجلس الثالث للكونجرس» بعد مجلس النواب ومجلس الشيوخ. ونمت فى الوقت نفسه محاولات الحكومة الاتحادية الأمريكية للتصدى لكل أشكال «إساءة استخدام النفوذ» من جانب منظمات اللوبى.. إلا أنها لم تطل حتى الآن منظمات اللوبى الموالية لإسرائيل. فهذه المنظمات تعرف قواعد اللعبة جيدا. وتستخدم أعراض «حمى البوتوماك» لصالحها ولصالح القضايا، التى تثيرها مع أعضاء مجلسى الكونجرس ومع كبار المسئولين فى البيت الأبيض وفى الوزارات والوكالات المختلفة.. وطبعا الإعلام.

ولا نبتعد أبدا عن الحقيقة حين نؤكد أن «المجمع العسكرى الصناعى» ــ الذى حذّر منه ومن نفوذه على الحكم الرئيس أيزنهاور فى خطبة الوداع الرئاسية عام 1961 ــ يعتبر أضخم منظمات اللوبى الأمريكى، التى تضغط على الحكومة والكونجرس من اجل الحفاظ على مصالح اعتمادات المؤسسة العسكرية، جانب وعلى مصالح وأرباح ومشاريع الصناعات الكبرى من ناحية أخرى.

وقد تمكنت منظمات اللوبى الموالية لإسرائيل من أن تخترق معظم منظمات اللوبى الأمريكى الكبرى، بما فيها تلك التى تضغط من أجل مصالح المجمع العسكري/الصناعي، وبقيت بمنأى عن الارتباط المباشر بإسرائيل كمسئولية لما تؤديه من نشاطات أو كمصدر لأموالها. إنها تتلقى الأموال من اليهود الأمريكيين وتنفقها على كل نشاط يؤيد إسرائيل ويدعمها.. لكن ليس لدفع قيمة عقود مباشرة مع شركات العلاقات العامة.

إن وصول عدوى «حمى البوتوماك» إلى القاهرة يشكل خطرا حقيقيا على الدبلوماسية المصرية، مفهومها واستقلالها وقدرتها على العمل.

ويبقى أن نسال «اللوبي المصري» الحكومي أن يحاول أن يجد أى مردود حقيقي وفعال لما دفع من أجله ملايين الدولارات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved