لماذا تغيّر رأينا فى نجيب محفوظ؟
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 10 فبراير 2012 - 9:30 ص
بتوقيت القاهرة
منذ ربع قرن (1987)، وقبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بعام واحد، نشرت له مجموعة من القصص القصيرة بعنوان «صباح الورد». كنت أقرأ فيها منذ أيام قليلة فوجدت واحدة منها ذات صلة وثيقة ببعض ما يجرى فى مصر الآن.
القصة محزنة ولكن كثيرا مما يجرى فى مصر الان محزن أيضا. ولأن نجيب محفوظ كان رجلا ثاقب البصر، فليس غريبا أن يكتب فى 1987 شيئا يمكن أن يلقى الضوء على ما حدث بعد ذلك، ولو بربع قرن.
القصة اسمها «آل شكرى بهجت»، وهى قصة بسيطة ولا يزيد طولها على عشر صفحات صغيرة. وتدور حول أسرة تتكون من رجل وزوجته وأربع بنات وولد جاء متأخرا، بعد أن بلغ الأب سن المعاش. كان الولد (شكرى) وسيما رياضى الجسم، التحق بكلية الطب وكان متقدما فى الدراسة. وكان حب أبيه له يفوق حبّه لأى شىء. ولكن حدث أن لاحظ الأب والأم أن الشاب لم يعد كسابق عهدهما به. فتر مرحه ومال إلى الانطواء. ثم وقعت الواقعة وتحولت القصة إلى مأساة.
دخل شكرى حجرة المعيشة حيث يجلس والداه أمام التليفزيون، وضغط على مفتاح التليفزيون فأسكته، وجاء بكرسى صغير فجلس أمام والديه قائلا: «ثمة سؤال يشغل بالى».
قال الأب مستنكرا: «ولكنك أغلقت التليفزيون دون استئذان؟».
قال الابن بعد لحظة صمت: «لماذا لا تصليان؟».
ذُهل الأب والأم للمفاجأة. إنهما ليسا متدينين، ولكنهما لا يضمران للدين شرا. إن الدين لا يشغل بالهما ولكنهما لا يؤذيان أحدا، ولا يسمحان أيضا لأحد بالتدخل فى شئونهما الخاصة. وها هو الابن يحاول الان أن يفرض رأيه عليهما.
تبادل الأب والأم نظرة حيرة واستغاثة.
قال الابن بعد فترة صمت: «ألستما مسلمين؟».
قال الأب: طبعا.
فردّ الابن: «المسلم ليس مجرد اسم ولكنه عقيدة وسلوك.
ــ المسلم مسلم فى جميع الأحوال.
ــ كلاّ.. إما أن تكون مسلما أو لا.
تساءلت الأم بقلق: هل انضممت إلى التيارات التى يتحدثون عنها؟
ــ هدانى الله إلى طريقه.
قال الأب: لم تحدثنا من قبل بهذه اللهجة؟
أجاب الأبن: كنت فى غيبوبة الجاهلية.
ــ لا أقبل أن تخاطبنى بهذا الأسلوب.
ــ انظر. طالما شجعتنى على الصدق والصراحة، وها أنت تضيق بمن يخالف رأيك.
قال الأب: شكرى، احصر انتباهك الان فى دراستك الصعبة، ولما تقف على قدميك افعل بنفسك ما تشاء. أسرتنا لم تقم يوما على الإكراه أو العسف.
قالت الأم لزوجها بعد انصراف الابن: «لن تستطيع أن تقول له انه مخطئ أو تقنعه بأننا على صواب».
أجاب الأب: «إنه يطالبنا بالتخلى عن أجمل ما فى حياتنا».
ضاعف من ألم الأب والأم أن الابن تجنبهما بعد ذلك تجنبا تاما. فهو إما فى الكلية أو فى جامع الحى أو فى حجرته.. يتناول طعامه فى المطبخ. انها مقاطعة مطلقة وشعر الأب والأم بأن مصيبة حلّت بهما ولن تخف بمرور الزمن، بل تتعقد وتستفحل وتنذر بشرّ العواقب. وقال الأب لنفسه «كدّرت صفوى عليك اللعنة»، وحنق على التيارات المتطرفة واعتبرها غريمه الأول فى الحياة.
عندما ألقى القبض على شكرى فى أعقاب معركة دامية مع الشرطة، واتهم بارتكاب جريمة قتل، أدرك الأب والأم أنهما خسرا ابنهما الوحيد الذى عقدا به آمالهما. وانطلق الأب يبحث عن محام قدير ويدبر له المال اللازم من مدخراته ومن بيع بعض حلىّ زوجته. ولكن الشاب رفض مقابلتهما. فسد مذاق الحياة تماما، وأسدل الستار بالحكم على الشاب بالشنق ونُفذ الحكم. وصف أحد أصدقاء الأب حاله فيما بقى له من عمر بقوله:
«شعرت طوال الوقت بأنه يغالب ألما دفينا حادا وباقيا كالظل. ولأول مرة فى أثناء ذلك العمر الطويل أشعر بأنه يكتم عنا أشياء تحاوره فى أعماقه، وأنه على أى حال لم يعد الشخص الذى كان».
●●●
القصة لا تتضمن أى نقاش حول الموقف الأمثل من الدين، ولا خلافا حول تفسير هذا النص الدينى أو ذاك، ولا تدعو إلى تبنى موقف دون آخر، بل تصف مأساة عائلية أدّى فيها موقف فكرى أو أيديولوجى إلى إفساد علاقة من أجمل العلاقات الإنسانية وأقواها، إذ عجز صاحب هذا الموقف الفكرى عن أن يرى جانبا إنسانيا مهما هو حب أبيه وأمه له، والآمال التى عقداها عليه. إن تجنب المأساة لم يكن يتطلب أن يقتنع أحد الطرفين برأى الاخر، بل كان يتطلب فقط تغييرا فى طريقة التعامل مع الآخرين.
خطر بذهنى عندما قرأت القصة أن شيئا شبيها جدا بها يحدث فى مصر الآن. ففريق من المصريين يبدون وكأن قلوبهم قد اعترتها قسوة مفاجئة، وغريبة عليهم كما هى غريبة على سائر المصريين (أسرتنا لم تقم يوما على الإكراه أو العسف) هذا الفريق يعلن فجأة أنهم متدينون على نحو مغاير لما اعتاد عليه المصريون لقرون طويلة، وأنهم يطالبون سائر المصريين بأن يحذوا حذوهم بالضبط وإلا اعتبروا «كفارا» يحق عليهم العقاب، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين أو أقباطا. ثم أعلنوا فجأة مواقف غريبة على سائر المصريين، من تحديد الثياب الواجب ارتداؤها، إلى رفض خروج المرأة إلى العمل، ورفض جلوسها مع الرجل فى نفس الفصول أو المدرجات فى المدارس والجامعات، أو فى النوادى أو الشواطئ أو وسائل المواصلات، إلى مواقف جديدة وغريبة على المصريين من الأدب والسينما والمسرح والرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص، إلى أساليب الاحتفال بالزواج والأفراح، وكتابة الخطابات وإلقاء الخطب، وأسلوب البدء فى المكالمات التليفزيونية وإلقاء السلام والتحية، كما تغير اسلوبهم فى إذاعة شعائر الصلاة، فقرروا استخدام الميكروفونات بكثرة، فلا يقتصر على إذاعة الأذان، بل يشمل خطب أئمة المساجد وأحيانا إذاعة الصلاة نفسها. واعتبروا أن كل هذه التغييرات ضرورية لاعتبار الدولة إسلامية حقا، واعتبار المسلم مسلما والا حقت عليه عقوبة تتفاوت قسوتها من حالة إلى أخرى بحسب درجة التعصب، ولكنها تشتد مع مرور الوقت.
●●●
منذ أسابيع قليلة قرأت فى الصحف أن واحدا من الداعين إلى هذا الأسلوب الجديد فى التدين أطلق أوصافا بذيئة للغاية على أدب نجيب محفوظ، مما يوحى بالطبع بأنه لو أصبح الأمر فى أيدى أمثال هذا الرجل لتحديد ما يُسمح بطبعه ونشره وقراءته وما لا يسمح، لمنعت كتب نجيب محفوظ من التداول. لم يكن مثل هذا الكلام جديدا تماما على أسماعنا فقد اعتدى البعض منذ سبعة عشر عاما على نجيب محفوظ بطعنه فى يده ورقبته مدعيا أن روايته «أولاد حارتنا» تحتوى على ما اعتبره كفرا. نعم حدث هذا منذ سبعة عشر عاما، ولكن لم يكن مثل هذا متصورا منذ سبعين عاما، إذ لم يكن من بين المصريين من يتخذ مثل هذا الموقف من الدين والأدب والفن، أو على الأقل لم يكن من بينهم من يجرؤ على إعلان مثل هذا الموقف. بل مما يجدر التذكير به أنه منذ سبعين عاما (أى فى الأربعينيات من القرن الماضى) كتب ناقد أدبى مصرى كبير بضع مقالات يشيد فيها بأدب نجيب محفوظ، مما فرح به نجيب محفوظ فرحا شديدا وجعله يحفظ الجميل لهذا الناقد الكبير، إذ نبّه الناس إليه فى وقت لم يكن قد ذاع فيه صيته بعد. كان هذا الناقد الأدبى هو سيد قطب الذى كانت لديه بلا شك ميول دينية قوية منذ الأربعينيات، جعلته يكتب عن «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» وتحليلات جميلة للأسلوب الفنى فى القرآن الكريم.
لقد طرأت على مصر خلال السبعين عاما الماضية تغييرات كثيرة، من نوع التغييرات التى أدت بسيد قطب إلى التحول من النقد الأدبى إلى التطرف الدينى، ولكنها لم تصل (فيما نعلم) بسيد قطب إلى أن يغير نظرته إلى أدب نجيب محفوظ. ولكن يبدو أن الأمور ساءت بشدة منذ الستينيات، حتى وصلنا إلى من يصف أدب نجيب محفوظ بالأوصاف البذيئة التى أشرت إليها.
ما الذى حدث بالضبط ليؤدى بنا إلى هذه النتيجة المحزنة؟
فى حوار دار بين الأب والأم فى قصة نجيب محفوظ التى بدأت بها هذا المقال، عندما بدآ يلاحظان ما طرأ على ابنهما من تغييرات، يقول الأب:
«إنه جيل مجهول».
فتجيب الأم «ولكننا ربيناه على الحرية والصراحة؟».
فيجيبها الأب «انه جيل يعانى من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود».
فهل وضع نجيب محفوظ يده، فى هذه الجملة القصيرة، على أهم أسباب التغيير الذى طرأ على شريحة يزداد حجمها من المصريين، فأنتج هذا الأسلوب المدهش فى التدين؟