بدايات تاريخ أمريكا
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 10 فبراير 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
حددت الحكومة الأمريكية شهر فبراير ليصبح «شهر الأمريكيين الأفارقة»، حيث يتم الاحتفال منذ عام 1926 بمساهمات الأمريكيين السود فى الحياة الأمريكية. وتم اختيار فبراير ليتزامن مع عيدى ميلاد الرئيس أبراهام لينكون الموقع على إعلان تحرير العبيد، وفريدريك دوجلاس الذى قاتل ضد العبودية. ويدفع هذا الشهر لتجديد النقاش والجدل بشأن مرحلة العبودية فى التاريخ الأمريكى، وهو الجدل الذى احتد بشدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
فقد بادرت صحيفة نيويورك تايمز قبل 3 أعوام بالتركيز على الذكرى الـ400 لبدء العبودية فى الأراضى الأمريكية، واقترحت الصحيفة أن يعتبر عام 1619 «عام ميلاد أمتنا».
وقبل أكثر من 400 عام وفى أغسطس 1619، تم خطف نحو 20 رجلا من أنجولا الحالية، وتم تقييدهم بالسلاسل وبيعهم إلى المستعمرين البريطانيين فى منطقة جيمس تاون بولاية فرجينيا الحالية. وقالت الصحيفة الأمريكية الأهم أن تاريخ بدء العبودية فى المستعمرات البريطانية يجب أن يكون تاريخا مفصليا فى التأريخ للدولة الأمريكية مثله مثل تاريخ توقيع إعلان الاستقلال فى عام 1776.
• • •
اعتبرت الكاتبة نيكول هانا جونز، فى عدد من المقالات، أن الأمة الجديدة آنذاك كانت «عبيدوقراطية» «(Slavocracy) أكثر من كونها ديمقراطية» (Democracy)، وأن المثل العليا التأسيسية للدولة الأمريكية كالمساواة والحرية كانت «كذبة»، وحصلت الكاتبة على جائزة بوليتزر المرموقة عن هذه المقالات.
وخرجت الكثير من الكتابات فيما عُرف بمشروع 1619 ليوثق ويتتبع تأثير العبودية على الحياة الأمريكية المعاصرة سواء فى السياسة، أو العدالة الجنائية، أو الرعاية الصحية، أو الاقتصاد وتوزيع الثروة.
وتم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية، والكتب التى تم إرسال مئات الآلاف من نسخها إلى المكتبات العامة والمدارس. وسرعان ما تكونت جبهة جديدة فى حرب أمريكا الثقافية. من جانبهم، رفض الجمهوريون فى أغلبهم هذا الطرح، واعتبرته شبكة فوكس الإخبارية بمثابة «هجوم على أمريكا نفسها».
وجادلت صحيفة نيويورك تايمز بأن التقدم نحو المساواة العرقية بين البيض والسود فى أمريكا ما هو إلا سراب، إذ إن جذور العنصرية تخترق الحمض النووى «دى إن إيه» (DNA) لهذا البلد. وكتبت هانا جونز أن «نظام الطبقات العرقية» الأمريكى تم وضعه قبل تأسيس البلاد، وأن «أحد الأسباب الرئيسية» لإعلان قادة المستعمرات الأولى فى شمال أمريكا الاستقلال عن بريطانيا هو «أنهم أرادوا حماية نظام العبودية».
وكتبت كذلك أن الآباء المؤسسين مثل توماس جيفرسون وجورج واشنطن وجون آدمز وغيرهم، ممن صاغوا إعلان الاستقلال، كانوا من ملاك العبيد، ومكّنهم الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية من الحفاظ على «الأرباح المذهلة التى ولدتها عبودية السود الأفارقة».
وقالت هانا جونز إن الأمريكيين السود كانوا وحدهم إلى حد كبير من يناضلون من أجل الحرية والمساواة، وهو ما يجعلهم «الآباء المؤسسين الحقيقيين لهذه الأمة». ويجادل مشروع 1619 بأن العنصرية المنهجية، التى هى إرث العبودية، لا تزال متجذرة بعمق فى كل مؤسسة أمريكية، ولا تزال عاملا دائما فى حياة الأمريكيين السود.
***
أشعلت هذه الآراء نقاشا حادا لم يتوقف بعد، وتعرضت رؤية مشروع 1619 للكثير من الهجوم من قِبل أكاديميين ومؤرخين، وجادلوا فى دوافع عدم التطرق للعبودية فى وثيقة الدستور الأمريكى وإعلان الاستقلال. ورفض المحافظون فرضية أن العبودية والقمع العنصرى يجب أن يكونا موضوعين مركزيين فى تاريخ الولايات المتحدة.
واعتبر بريت ستيفنز، الكاتب المحافظ بصحيفة نيويورك تايمز (صاحبة المبادرة)، أن المشروع قاصر فى تبسيطه، وفشل فى الدفاع عن ادعاءاته المثيرة للجدل. وقال إنه على الرغم من أن الآباء المؤسسين كان لديهم أخطاء، فإن ما جعل هذا البلد استثنائيا لم يكن العبودية، بل المبدأ التأسيسى الثورى الأمريكى بأن «جميع الرجال خلقوا متساوين»، إضافة إلى أكثر من 250 عاما من النضال من أجل تحقيق مثلها العليا.
واتهم الرئيس السابق دونالد ترامب مشروع 1619، وقال إنه يهدف إلى «تلقين أطفالنا كراهية أمريكا».
ثم تراجعت صحيفة نيويورك تايمز قليلا، وقالت إن الثورة لم تكن ضد بريطانيا من أجل الاستقلال لحماية نظام العبودية فقط، فقد ثار الكثيرون لأسباب تتعلق بالحرية وغيرها. ثم تراجعت الكاتبة هانا جونز وقالت إن «عام 1619 هو ليس تاريخ تأسيس أمريكا الحقيقى». فى الوقت ذاته، لم تتبرأ صحيفة نيويورك تايمز من مبادرتها، واعتبرت أن النقاش العميق حول التأثير الدائم للعبودية والعنصرية هو «انتصار صحفى غير الطريقة التى يفهم بها ملايين الأمريكيين بلدهم»، وأن «المراجعة والتوضيح جزءان مهمان من التحقيق التاريخى».
نجح مشروع 1619 فى إلقاء الكثير من الضوء على تاريخ وإرث العبودية فى أمريكا، وكيف يمكن من خلال العبودية فهم الكثير من الظواهر المعاصرة المرتبطة بالأمريكيين من أصول أفريقية. وزادت أهمية المشروع مع تأكيد 60% من المدرسين أن كتبهم المدرسية فشلت فى تغطية العبودية بشكل كاف، فى وقت لا يعرف فيه أغلبية طلاب المدارس الثانوية حتى أن العبودية كانت السبب الرئيسى للحرب الأهلية.
فى النهاية، لم يحاول مشروع 1619 استبدال تاريخ أمريكا، بل كان محاولة ناجحة لسد فراغ كبير لم يتطرق إليه الكثيرون من قبل.
بيد أن القوة المحافظة الأمريكية لا تراه كذلك، فقد قدمت 35 ولاية مشاريع قوانين، أو اتخذت خطوات أخرى لتقييد تدريس التاريخ اعتمادا على منهج «النظرية النقدية» (Critical Theory)، وهو النهج الذى يركز على إرث العنصرية المنهجية لفهم تاريخ أمريكا خاصة عند بدايته.