دواء لقسوة الحكام
سمير كرم
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 مارس 2009 - 7:12 م
بتوقيت القاهرة
فى معظم بلدان العالم لا يعين شخص فى وظيفة ــ سواء كانت حكومية أو غير حكومية، تابعة للقطاع العام أو للقطاع الخاص ــ إلا بعد أن يخضع لكشف طبى شامل ودقيق يقرر صلاحيته للعمل.
لكن ــ وفى معظم بلدان العالم أيضا ــ لا ينطبق هذا على الأشخاص الذين يتولون مواقع القيادة السياسة العليا حيث تكون لهم سلطة اتخاذ القرار.
أمر يدعو للدهشة فعلا.. لأن الأشخاص الذين يتولون القيادة السياسية العليا فى أى بلد يكونون مسئولين عن قرارات أحيانا ما تكون مصيرية، تفصل بين الحياة والموت، بين النهوض والانهيار ــ مثل قرارات الحرب والسلام ــ ومما يدعو للدهشة أكثر أن معظم بلدان العالم الديمقراطية، أيا كان نوع الديمقراطية فيها ــ لا تفرض على من يتولى الحكم أو القيادة أى التزام بأن يخضع لكشف طبى، بدنى أو عقلى.
ولكى نتوخى الدقة والصدق لابد أن نقول: إنه إذا تعرض أى من المرشحين لمنصب الرئاسة ــ فى بلد مثل الولايات المتحدة ــ لحملة تشكيك فى قدرته الصحية، فإنه لا يكون مطالبا سوى بالرد بشهادات من أطبائه تؤكد أنه سليم معافى وجاهز لتحمل مسئوليات الحكم بكل جسامتها.
ولا يكون هناك دخل لأى جهة رسمية بتأكيد ذلك أو نفيه. وبطبيعة الحال فإن رئيس الولايات المتحدة يحظى برعاية طبية فائقة طوال وجوده فى البيت الأبيض، وتجرى له فحوص سنوية شاملة يصدر بها بيان موجز لا يكاد يلفت نظر أحد ما لم يقل ــ مثلا ــ إنه يحتاج لإزالة سرطان جلد فى الأنف، كما حدث مع الرئيس ريغان فى فترة رئاسته الثانية.
ربما يتم هذا فى البلدان الديمقراطية الأخرى، لكن الأمر المؤكد أنه لا فى الولايات المتحدة ولا فى غيرها يتعرض الرئيس أو نائب الرئيس ولا رئيس أركان القوات المسلحة لكشف طبى بدنى أو عقلى من أى نوع. وهذا هو يقينا شأن رؤساء الدول الأخرى جميعا، أيا كان موقعها من الديمقراطية أو عكسها.
فى أواخر سنة 1971، كانت جمعية علم النفس الأمريكية تستعد للاحتفال بالذكرى الثمانين لتأسيسها، انتهز دكتور كنيث كلارك رئيس الجمعية آنذاك الفرصة لينشر بحثا فريدا دعا فيه إلى تطوير دواء يشفى الناس من القسوة، وركز بشكل خاص على الحاجة إلى تطوير مثل هذا الدواء من أجل «القادة القوميين كوسيلة لخفض العنف الذى يمارس على نطاق عالمى».
كان عام 1971 هو عام الذروة فى الهجمات الأمريكية الوحشية القاسية ضد فيتنام الشمالية. وقبله بوقت قصير كان أحد القادة القوميين الأمريكيين، المرشح الجمهورى للرئاسة بارى جولووتر قد دعا إلى تقصير أجل الحرب الأمريكية على فيتنام باستخدام الأسلحة النووية الأمريكية ضدها مادامت الأسلحة التقليدية لم تفلح على مدى سنوات فى تركعيها. وخاض جولووتر معركته لنيل الرئاسة على أساس هذه الدعوة.
مع ذلك؛ فقد كانت دعوة رئيس جمعية علم النفس الأمريكية فريدة من نوعها وفى المجال الذى طرحت فيه. وربما تكون قد أثارت مناقشات واسعة بين مؤيدين ومعارضين لفكرة إنتاج دواء ضد القسوة... لكنها فى النهاية خبت واختفت، بل ونسيت. ربما نسيت لأن حرب أمريكا على فيتنام انتهت بعد ذلك بعامين.
لكن الملاحظ أن هذه الدعوة لم تعد إلى الذاكرة ــ على الأقل ذاكرة العلماء المعنيين ــ ولا ذاكرة السياسيين المقصودين مرة أخرى..حتى بعد ما فعلته القيادات الأمريكية السياسية والعسكرية فى يوغوسلافيا السابقة، وفى العراق قبل الغزو وأثناء الاحتلال، وكذلك فى أفغانستان بعد هجمات 11/9 الإرهابية. مع أن مظاهر القسوة المفرطة كانت واضحة تماما فيما أحدثته الأسلحة الأمريكية، بناء على أوامر الرؤساء والقادة، بهذه البلدان.
وقد وقعت حرب إسرائيل على غزة وأظهرت بكل ملابساتها وأسلحتها الأمريكية إلى أى حد مارس القادة الإسرائيليون الذين أصدروا أوامرهم بشن هذه الحرب وأولئك الذين نفذوها، قدرا يفوق الوصف من القسوة اللا إنسانية ضد سكان غزة. ولم يتذكر أحد تلك العودة الفريدة إلى تطوير دواء يحد من قسوة القادة.
وقد ناقش رئيس جمعية علم النفس الأمريكية فى بحثه ذاك قدرة ما أسماه «التكنولوجيا السيكولوجية على السيطرة على أهواء الذات»، والتى يمكنها أن تنشئ وتيسّر وتعقلن وتحد من القسوة الإنسانية. وقال بالحرف الواحد «فى النهاية فإن قادة العالم الذين يملكون قوة نووية تقرر مصير البشرية ينبغى أن يزودوا بأول الجرعات من مثل هذا الدواء فى أقرب وقت ممكن.
وأوضح د. كلارك آنذاك ــ بما لا يدع مجالا للشك ــ أن مخاوفه كانت تتعلق بشكل أساسى بقادة الدول التى تملك أسلحة نووية.
إن القاصى والدانى يعرفان اليوم بوضوح تام وبلا أدنى درجة من الشك أن إسرائيل تملك ترسانة نووية لا تقل محتوياتها عن 300 رأس نووى. وإذا رأينا هذه الحقيقة على خلفية من الأفعال اللاإنسانية التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة، هل يمكننا أن نبيت مطمئنين إلى أن قادة إسرائيل لن يقدموا أبدا على استخدام أسلحتهم النووية ضد الفلسطينيين؟.
من المؤكد أن هناك من سيقول إن إسرائيل لا تستطيع فى أى ظرف أن تلجأ إلى السلاح النووى، خاصة ضد الفلسطينيين لأن تأثيراته الإشعاعية تطالهم.. تطال الإسرائيليين ومستوطناتهم ومنشآتهم. لكن ألم يكن هذا أمرا معروفا لقادة إسرائيل وعلمائها منذ بداية قرارهم بأن يمتلكوا أسلحة نووية؟. هذا إذا أحجمنا عن التذكير بالقاعدة اليهودية القديمة التى نطق بها شمشون وهو يهدم المعبد«علىّ وعلى أعدائى».
إن القسوة التى مارست بها إسرائيل حربها على غزة تعطى أدلة كافية على أن حكام إسرائيل يتقدمون «القادة القوميين» الذين يحتاجون إلى تعاطى دواء يحد من القسوة والميل المفرط إلى ممارسة العنف، خاصة أن نزع سلاح إسرائيل النووى أبعد احتمالا.
وإذا كان قد انقضى ما يربو على 37 عاما على دعوة د. كلارك فإن متابعة عادية للتطور فى مجال العلاج العصبى والنفسى بالأدوية تكاد تؤكد أن مثل هذا الدواء أصبح موجودا ومتاحا.
هل من سبيل إلى إحياء تلك الدعوة؟
ربما لا يكون من الصعب تذكير جمعية علم النفس الأمريكية بذلك البحث الفريد.. لكن الأمر الصعب بالتأكيد هو إقناع الحكام والقادة ــ وبالأخص السياسيين والعسكريين ــ بأن يخضعوا لمثل هذا النوع من العلاج، خاصة منهم من يملكون سلطة اتخاذ قرار باستخدام أى من أسلحة الدمار الشامل.
المسألة تبدو بعيدة المنال. تحتاج إلى تغيير فى نظم الحكم فى أقوى دول العالم وإلى تغيير فى نظم انتخاب القادة وتعيين القادة العسكريين.. تغيير يقتضى الكشف الطبى لتحديد مدى احتياج كل منهم إلى دواء ضد القسوة والإفراط فى العنف.