لماذا انتقل الثقل العالمى إلى آسيا؟
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 11 مارس 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
الدولة الوحيدة فى العالم التى تتواصل فيها الحرب هى دولة إسلامية، أفغانستان.
والدولة الوحيدة فى العالم التى لا تزال محتلة هى دولة عربية، فلسطين.
والدولة الوحيدة فى العالم التى تتواصل فيها الحرب الأهلية هى دولة عربية ــ إسلامية، الصومال.
وما عدا ذلك فإن العالم تغير. لقد اقتحم العالم العربى الطريق إلى التغيير من ثغرة شقها فى جدار التعسف والاستبداد والفساد. إلا أنه لا يزال فى أولى خطواته إلى العالم الجديد.
●●●
تتمثل صورة العالم الجديد فى التغيير الجذرى الذى طرأ على مركز الثقل فيه. كانت أوروبا الغربية والولايات المتحدة تشكل المركز. الآن انتقل المركز إلى آسيا.
إن ستين بالمائة من سكان العالم البالغ عددهم سبعة مليارات انسان، يعيشون فى آسيا. وأكثر من ثلثهم، 37 بالمائة، يعيشون فى الهند والصين وحدهما.
كانت الولايات المتحدة تعزز مكانتها فى المحافظة على مركزيتها العالمية من خلال المساعدات التى تقدمها والقواعد العسكرية التى تقيمها شرقا وغربا. من اليابان إلى أوروبا الغربية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن الولايات المتحدة تنوء اليوم تحت عبء من الديون الخارجية لا سابق له فى التاريخ. ومعظم أصحاب هذه الديون هم من الدول الآسيوية وخاصة الصين. تلك الدولة التى كانت غارقة حتى أذنيها حتى أواخر القرن التاسع عشر فى الإدمان على المخدرات «الأفيون». اليوم تطرح الصين نفسها قوة انقاذ للاقتصاد الأوروبى مما يعانيه من صعوبات دفعت بعض دوله إلى حافة الإفلاس!
فى عام 1997 شكلت الدول الآسيوية العشر، مجموعة آسيان، بما فيها الصين واليابان وكوريا الجنوبية، صندوق نقد آسيوى موحد. فى ذلك الوقت عارضت الولايات المتحدة تشكيل الصندوق بقوة بحجة أنه يتناقض مع صندوق النقد الدولى الذى تهيمن عليه واشنطن ماليا وبالتالى سياسيا. وتمكنت بالفعل من عرقلة تنفيذ المشروع. وفى عام 2010 عادت الدول الآسيوية مرة ثانية إلى مشروعها. هذه المرة عجزت الولايات المتحدة عن معارضته أو عرقلته. واضطرت إلى القبول به. ولقد قام الصندوق بالفعل برأسمال أولى قدره 120 مليار دولار! وذهبت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلنتون إلى الإعلان رسميا «أنه فى الوقت الذى تقترب الحرب فى العراق وأفغانستان من نهايتيهما، فإن علينا أن نسرّع من جهودنا للإمساك بالحقائق العالمية الجديدة ولتجديد قيادتنا وإعادة استثمار مواردنا المحدودة بحكمة بحيث تعطينا مردودا أكبر. ومن هنا أهمية التوجه نحو آسيا الباسيفيكية».
●●●
يحصى علماء الاجتماع السياسى ــ الاقتصادى ستة أسباب وراء انتقال الثقل الدولى من الغرب إلى الشرق، أى من المحور الأوروبى الأمريكى إلى المحور الآسيوى الصينى ــ اليابانى ــ الهندى. وهذه الأسباب هى:
أولا : التحول الديموغرافى. ويتمثل ذلك فى النسبة العالية من الشباب. فالمجتمعات الآسيوية مجتمعات شابة، فيما المجتمعات الأوروبية مجتمعات عجائز. الشباب ينتجون، والعجائز يستهلكون. الشباب يضخون الدم فى شرايين الحياة فى الدولة، والعجائز يعتمدون على التعويضات والمساعدات التى تقدمها الدولة لهم.
ثانيا: تطوير وتحديث برامج التعليم فى الدول الآسيوية للإفادة من الظاهرة الديموغرافية التى تتمتع بها. فقد دخلت هذه الدول عصر المعلوماتية منذ بداياته الأولى، ومن أبوابه العريضة. أصبحت الآن رائدة فيه إنتاجا وتطويرا وليس استهلاكا فقط.
ثالثا: خلق بيئة صالحة لاستقطاب الاستثمارات الخارجية. ويتمثل ذلك فى أن كثيرا من كبرى المؤسسات والشركات فى العالم انتقلت إلى آسيا، حيث تجد اليد العاملة الشابة والمتعلمة، غير المكلفة والمدربة أحسن تدريب، كما تجد الأسواق الاستهلاكية حيث تتوافر قدرة شرائية لم تكن موجودة من قبل. كل ذلك فى ظل تشريعات تشجيعية مواكبة لروح العصر الجديد.
رابعا: إنفاق الدول الآسيوية بسخاء على مراكز البحث العلمى، لتشجيع الابتكار والاختراع والاكتشاف، بعد أن كانت حتى منتصف القرن الماضى تعتمد على التقليد.
خامسا: تربية النشء الجديد على أخلاقيات التفانى فى العمل وهى مدرسة يابانية ناجحة، عرفتها الولايات المتحدة من قبل وعزتها إلى ما يسمى «بالأخلاق البروتستنتية»، حسب نظرية الفيلسوف الألمانى الشهير ماكس فيبر.
ولقد سادت مدرسة التفانى فى الصين، حيث تسود اللا دينية، وفى الهند، حيث السيادة للأخلاق الهندوسية. وفى كوريا الجنوبية حيث الأخلاق البوذية هى السائدة.
ومع ثقافة التفانى فى العمل، قامت ثقافة الاستهلاك على قاعدة أن من حق المنتج أن يستهلك؛ أما الاستهلاك من دون إنتاج فتلك ثقافة تودى بأصحابها إلى التهلكة.
ونحن نعرفهم جيدا لأننا نعرف أنفسنا جيدا فى دول العالم العربى والإسلامى. ذلك أنه رغم أن معظم هذه الدول تقع فى آسيا، فإنها ــ باستثناء ماليزيا ــ لا تزال جزءا من ثقافة آسيا القديمة؛ ثقافة ما قبل خروج النمور الآسيوية من أقفاص الاجترار، والانتقال إلى فضاء الانتاج والمنافسة. ولم تلتحق هذه الدول العربية والاسلامية بعد بركب التحولات العميقة التى شهدتها القارة. ومن مأثور المفكر اللبنانى جبران خليل جبران (القرن التاسع عشر): قوله: «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع». ومن المحزن أن رنين جرس هذا الإنذار لم يلقَ آذانا صاغية.
●●●
وفى منتصف القرن الماضى، نقل عن أحد أصحاب المصانع فى بريطانيا انه «إذا عمد الصينيون إلى إطالة قمصانهم سنتمترات قليلة، فإن ذلك سيكون كافيا لمضاعفة إنتاج مصانع النسيج فى يوركشاير البريطانية». أما اليوم فإن كثيرا من الملبوسات البريطانية هى صناعة صينية، ولقد توقف عدد كبير من هذه المصانع عن العمل!
وجنبا إلى جنب مع التحولات الاقتصادية ــ الاجتماعية التى غيرت وتغيّر صورة العالم، قامت تحولات عسكرية ــ سياسية أيضا. وهى تلعب دورا مكملا فى إعادة صياغة معادلات عالم القرن الواحد والعشرين الجديد.
فبعد الحربين اللتين انفجرتا فى فيتنام وكوريا ــ بعد الحرب العالمية الثانية ــ لم يعرف العالم حروبا دولية بالمعنى العلمى للكلمة. فالحرب الأمريكية على العراق فى عام 2003 كانت غزوا واجتياحا، ولم تكن حربا حقيقية بين قوتين. وكذلك الحرب الروسية ــ الجيورجية فى عام 2008 والتى كانت صداما عسكريا محدودا. وباستثناء ما يجرى فى أفغانستان من قتال متقطع بين القوات الأمريكية ــ الأطلسية وقوات طالبان، لا توجد مسارح عالمية مفتوحة أمام التحارب على نطاق واسع. فقد تعلّم العالم أن الحرب لا جدوى منها (ويمكن استثناء إسرائيل من هذا الدرس العالمى، فهى وحدها التى تستعد للحرب وكأنها واقعة غدا، وهى وحدها التى تصنع مجتمعا حربيا معاديا).
فى الحرب العالمية الثانية كان معدل القتلى يبلغ 300 قتيل إلى كل مائة ألف من السكان. وهبطت هذه النسبة فى الحرب الكورية إلى 30 قتيلا، وإلى ما دون ذلك فى الحرب الفيتنامية. وهى الآن أقل من قتيل واحد إلى كل مائة ألف من السكان، حسب الدراسات الإحصائية الدولية.
●●●
لم تعرف آسيا حروبا مدمرة بعد كوريا وفيتنام، وهما فى الأساس حربان تورطت فيهما الولايات المتحدة. وباستثناء الحرب الهندية ــ الصينية المحدودة فى الستينيات من القرن الماضى، فقد كانت حروب آسيا الحقيقية، حروبا على الفقر والجهل والمرض فى مجتمعاتها. ولقد تغلبت عليها. ولذلك انتقل مركز الثقل العالمى اليها.