الخط المستقيم بين استعمار الأوروبيين لبلادنا وأفران الغاز فى بلادهم!
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 10 مارس 2023 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
كانت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٨) هى الحدث المفصلى الذى أنهى هيمنة أوروبا على العالم اقتصاديا وتجاريا وعسكريا وسياسيا وجرف نموذج التقدم الغربى الذى قادته القارة العجوز بين القرن السادس عشر وبدايات القرن العشرين إلى هاوية أزمة وجودية كبرى تراكمت تناقضاتها بين دماء ودمار وكساد وتطرف وصراع وسباق تسلح من جهة وتقدم علمى وتكنولوجى وفنى من جهة ثانية ومخاوف من جهة ثالثة بشأن أفول متوقع لأوروبا وصعود قادم لمراكز جغرافية أخرى كان أبرزها الشرق الذى مثلته آنذاك اليابان.
أما الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ــ ١٩٤٥) فكانت الانفجار الأشد دموية ودمارا وعنفا وإجراما لتناقضات الأوروبيين الذين عادوا لقتل ملايين البشر بين ظهرانيهم وخارج أراضيهم وأضافوا إلى السجل المفزع لجرائمهم ضد الإنسانية ولما سبق من استخدامهم للأسلحة الفتاكة (الأسلحة الكيماوية فى الحرب العالمية الأولى مثالا) جريمة الإبادة لملايين اليهود فى أفران الغاز ومعسكرات الاعتقال الألمانية (الهولوكوست) وجريمة التصفية الجماعية للمدنيين فى ساحات الحروب على النحو الذى عانت منه أكثر من غيرها شعوب الاتحاد السوفييتى السابق جراء العدوان الألمانى (مذابح ستالينجراد نموذجا). وقد كان فى تشابه أسباب انفجار الحرب العالمية الثانية مع أسباب نشوب الحرب العالمية الأولى التى سبقتها بما لم يتجاوز سوى بقليل عقدين من الزمن، كان فى ذلك صدمة بالغة للأوروبيين الذين عانوا الأمرين من تناقضات فترة ما بين الحربين ومن تداعيات الكساد الاقتصادى العظيم فى ١٩٢٩ وكان بعضهم يمنى النفس بشىء من السلام والاستقرار وبشىء من تحسن أوضاعهم المعيشية وبعضهم الآخر ينشط فى قوى جماهيرية وسياسية بحثا عن تغيير جذرى لواقعهم فإما الفاشية وإما الشيوعية.
وباستثناء الفاشيين الذين استقبلوا نشوب الحرب فى ١٩٣٩ بهستيريا تأييد عام (خاصة فى ألمانيا)، كانت الأغلبيات بين شعوب القارة العجوز بين مرهقة ومتخوفة من الغرق مجددا فى الدماء والدمار ومن استمرار الفقر والعوز وبين متحفظة على دفع حكوماتها للتورط فى صراعات عسكرية مفتوحة. وبفعل وضعية الإرهاق والخوف والتحفظ تلك، ساومت عديد الحكومات الأوروبية (بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتى السابق) الفاشيين المتعطشين للحرب تاركة لهم تارة التدخل العسكرى فى صراعات أهلية كما فعل النازيون فى الحرب الأهلية الإسبانية (١٩٣٦ ــ ١٩٣٩)، وتارة ثانية ضم النمسا وأقاليم أوروبية أخرى إلى ألمانيا النازية (١٩٣٨)، وتارة ثالثة التوسع الاستعمارى الإيطالى فى القرن الأفريقى (إثيوبيا فى ثلاثينيات القرن العشرين) وفى شمال أفريقيا (استكمال إخضاع ليبيا فى الثلاثينيات أيضا). غير أن مساومة الفاشيين درءا للحرب، تلك المساومة التى باتت تسمى فى أدبيات العلوم السياسية «استمالة ميونيخ» فى إشارة إلى المعاهدة التى وقعت فى المدينة الألمانية فى ٣٠ سبتمبر ١٩٣٨ بين الحكومة النازية وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا وأقر بها ضم إقليم السوديت الواقع آنذاك فى أراضى تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا بعد أن هدد أدولف هتلر بعمل عسكرى، لم تأتِ بثمرة الحفاظ على السلام الهش المرجوة. بل على النقيض التام، انفتحت شهية الفاشيين على المزيد من المغامرات العسكرية وضم الأراضى والتوسع الاستعمارى، وتسارعت بصورة مخيفة معدلات التسليح فى ألمانيا التى سيطر على حكومتها النازية هدف إلغاء نتائج الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى وحلم الإمبراطورية الجرمانية الممتدة فى أوروبا وخارجها وكذلك فى إيطاليا التى أراد حكامها الفاشيون إحياء الإمبراطورية الرومانية واستعادة مجدها، ومن ثم انفجرت الحرب العالمية الثانية فى ١ سبتمبر ١٩٣٩ بعد مرور أقل من عام على توقيع معاهدة ميونيخ.
• • •
تعددت أسباب الحرب العالمية الثانية. فى البدء كان الصراع على السيطرة والنفوذ بين النازيين والفاشيين من جهة وبين الإمبراطوريتين الاستعماريتين فى بريطانيا وفرنسا اللتين خرجتا من الحرب العالمية الأولى فى حالة وهن بالغ وسعتا إلى تجنب القتال بكل السبل وأُجبرتا عليه إما لمنع سيطرة ألمانية وإيطالية على عموم أوروبا كما فعلت بريطانيا أو لمقاومة احتلال أراضيها ومستعمراتها كما كان حال فرنسا التى احتلها الألمان فى ١٩٤٠ وتكالب الفاشيون على أطراف إمبراطوريتها فى أفريقيا وآسيا.
فى البدء، أيضا، كان الاستقطاب الأيديولوجى الحاد بين حكومات فاشية عنصرية تريد إعادة هندسة ديموغرافيا (التركيبة السكانية) للقارة العجوز لتحقيق نقاء دينى وعرقى وثقافى مزعوم يستبعد منه بأدوات الإبادة اليهود الأوروبيون والغجر من قبائل الروما والسنتى الأوروبية ويستبعد منه قتلا وسجنا ونفيا الشيوعيون والفوضويون، وبين حكومات استعمارية مارست قدرا من الديمقراطية والتسامح فى مراكزها الأوروبية وتنصلت منه فى مستعمراتها وأطرافها التى أخضعت شعوبها غزوا وعدوانا واحتلالا وقهرا ممنهجا.
فى البدء، ثالثا، كان خروج التقدم العلمى والتكنولوجى والعسكرى عن كل سيطرة سياسية ممكنة واندفاعه نحو سباق تسلح محموم محمولا إما على أوهام حكم العالم وبناء الإمبراطوريات الجديدة (الفاشية الأوروبية)، أو على رغبات الحفاظ على ما تبقى من كيان إمبراطورى وتواجد استعمارى (بريطانيا وفرنسا)، أو على البحث عن دور قيادى إن فى الجوار الجغرافى المباشر (اليابان) أو على امتداد العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، أو فى سبيل الدفاع الشرعى عن النفس فى مواجهة عدوان إبادة وتصفية وتدمير (الاتحاد السوفييتى السابق ما أن أطلق النازيون «العملية بارباروسا» لغزو أراضيه فى ١٩٤١)، أو محمولا على وعد أرباح مالية لا نهائية (كحال المصالح الصناعية والاقتصادية الألمانية التى صنعت للنازيين مدافعهم ودباباتهم وطائراتهم وصواريخهم وطورت لهم تكنولوجيا الإبادة والتصفية فى أفران غاز وبأسلحة كيماوية وبعلماء مجرمين كقاتل الأطفال الدكتور جوزيف مينجله Josef Mengle وبقنابل نووية كانوا قد أوشكوا على الانتهاء من تطويرها قبل أن تضع الحرب أوزارها). وما كان لمثل سباق التسلح المحموم ذاك سوى أن يصطنع ساحات قتاله ومعاركه فى البدء على أراضى القارة العجوز ومنها إلى البحار والمحيطات متبوعة بالقارتين الأفريقية والآسيوية مع دخول اليابان والولايات المتحدة الأمريكية الحرب. ما كان لسباق التسلح المحموم والمتفلت من كل سيطرة سياسية ومن كل قيد أخلاقى سوى أن يصطنع أماكن جرائم الإبادة والتصفية والقتل الجماعى بجنون عداء النازيين لليهود وإبادتهم فى معسكرات «الحل النهائى» فى داخاو الألمانية وفى أوسشفيتز وتربليانكا البولنديتين، وفى لفيف الأوكرانية، وبالاستباحة المفزعة للمدنيين السوفييت من قبل الجيش النازى وللمدنيين الألمان من قبل الطائرات البريطانية والأمريكية (الغارات على مدينة درسدن فى فبراير ١٩٤٥) وللمدنيين اليابانيين بفعل قنبلتى الولايات المتحدة الذريتين اللتين أبادتا هيروشيما ونجازاكى (أغسطس ١٩٤٥) وللمدنيين الألمان فى نهايات الحرب بفعل النزوع الانتقامى للجيش الأحمر السوفييتى (قتل واغتصاب وتعذيب وتهجير الألمان مما كان بروسيا الشرقية فى ١٩٤٥).
• • •
فى كافة تلك السياقات، تشابهت أسباب انفجار الحرب العالمية الثانية واستمرار معاركها وجرائمها التى أحرقت الكرة الأرضية بين ١٩٣٩ و١٩٤٥ مع أسباب نشوب الحرب العالمية الأولى وفظائعها بين ١٩١٤ و١٩١٨. فى الحربين، كان الأوروبيون هم المسئولون عن الكارثة التى حلت ببلدانهم ومجتمعاتهم وبالبشرية جمعاء. فى الحربين، كانوا هم المسئولون عن خرائط دماء ودمار لم يعرفها العالم قبل النصف الأول من القرن العشرين. فى الحربين، كان الأوروبيون، استعماريون يتكالبون على السيطرة والنهب وفاشيون من دعاة عنصرية النقاء الدينى والعرقى إبادة وقتلا، هم المسئولون عن عنف الأسلحة الكيماوية وأفران الغاز والقنابل الذرية وجميعها أدوات إجرامية لم يعرفها التاريخ الإنسانى قبل النصف الأول من القرن العشرين. ومثلما قضت الحرب الأولى على هيمنة أوروبا على العالم وواجهت نمط التقدم الغربى بأزمة عاصفة تواصلت بين الحربين فى العشرينيات والثلاثينيات، قضت الحرب الثانية على وهم استعادة الأوروبيين لحيوية ورونق نموذجهم للتقدم من داخل قارتهم العجوز، وأظهرت عجزهم عن تحقيق السلام وتجاوز تناقضات مجتمعاتهم بين الاستعمار والفاشية هنا والديمقراطية والتسامح هناك، ومع نهايتها انتقلت مراكز الثقل العالمى بعيدا عن قلبها.