التقدم مسئولية الجيوش
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 10 أبريل 2014 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
درست فى مرحلة من مراحل تعليمى على يد أستاذ هندى. اشتهر الأستاذ بين زملائه فى التخصص بنظريته عن تقدم الأمم وانتقال المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة ثم إلى التكنولوجيا والخدمات. كان يقول ويكرر أن لا مجتمع فى التاريخ حقق تقدما إلا وكان الدافع للتقدم هو حماية الأمن والدفاع عن البشر والأرض. الطرق السريعة فى ألمانيا والولايات المتحدة، السكك الحديدية فى بريطانيا ومستعمراتها بما فيها مصر والهند، الفنون البحرية كالسفن العملاقة وأجهزة الإرشاد، الصناعة الثقيلة الضرورية لصنع المدافع والطائرات والمدرعات والحصون، تعليم العلوم والبحث العلمى كشرط لإنتاج الذرة والصواريخ والطائرات بدون طيار والحشرات والكتائب الآلية، والإصرار على قهر المستحيل، كالصعود إلى القمر والبحث عن علامات الحياة فى الكواكب كان ضروريا لإقامة اقمار اصطناعية تتحكم فى الاتصالات العسكرية وتحدد الأهداف وتساعد فى حمايتها من مواقعها فى السماء. جميع أو أكثر الإنجازات التى حققتها البشرية خلال مسيرة تقدمها، نشأت الحاجة إليها لتعزيز الدفاع عن الأوطان.
•••
منذ أن تلقيت هذا الدرس وانا أحاول صياغة الأسئلة المناسبة سعيا وراء فهم أوسع للعلاقة بين الجيوش وتقدم المجتمعات أو تدهورها. كان السؤال الأهم الذى ألح دائما وفرض نفسه على صدارة قائمة الأسئلة هو المتعلق بعملية استشراف التهديدات العظمى التى تنتظر الوطن فى المستقبل، لأنه بناء على هذه التهديدات ستصدر الإيحاءات وتبذل الضغوط أو تصدر الأوامر إلى الصناعيين والتربويين والممولين لتلبية حاجات الدفاع لصد هذه التهديدات التى ستأتى بعد سنوات معدودة.
•••
مرت سنوات، انشغلت فى بدايتها بالبحث فى دور الجيوش فى التنمية السياسية، كان اهتمامى شديدا بالتجربة المصرية باعتبار أنها كانت من التجارب الرائدة فى العالم الثالث، وبخاصة منذ أن كتب فاتيكيوتيس، عالم السياسة المصرى من أصل يونانى، كتابه الشهير عن العلاقات المدنية العسكرية ليلحق به أنور عبد الملك بكتابه بعنوان «مصر مجتمع عسكرى» عن دور الجيش فى بناء الدولة المصرية الحديثة، وبعده ظهر كتاب فاينر بعنوان «رجل على ظهر حصان» ولم يمض وقت طويل بعد نشر هذه الكتب الثلاثة إلا وكانت أرفف العلوم السياسية والتنمية فى مختلف مكتبات الجامعات محشوة بالمئات من الكتب عن دور الجيوش فى تنمية الدول حديثة الاستقلال. والانتقال بها إلى عصر الصناعة. وللأمانة لم أخف يوما خلاصة ما توصلت إليه نتيجة ممارسة عملية ويومية مع جيوش فى الحكم فى العالم العربى وأمريكا الجنوبية، وقراءة مستفيضة عن أدوارها فى التنمية والسياسة، وهى أن معظم التجارب التى كانت الجيوش تحكم بنفسها وتتولى مسئوليات سياسية عادية انتهت فى أسوأ الظروف بفشل أو بكوارث، وانتهت فى أحسن الظروف بتعطيل النمو السياسى، بمعنى «إعطاب» قدرة الطبقات الوسطى على تشكيل أحزاب وحركات مدنية وبناء المواطن والوطن. إذ حدث فى معظم التجارب التى مارست فيها الجيوش الحكم بنفسها أنها انشغلت بمشكلات الحكم والسياسة عن دورها الأساسى كقاطرة حضارة وتقدم، ومركز لتطوير التكنولوجيا، وطاقة هائلة لا تتوفر لغيرها من مؤسسات الدولة للقضاء على الأمية وتوجيه مؤسسات التربية والتعليم لتخريج بشر مؤهل لقيادة سفينة النمو والأمن.
•••
تذكرت هذه المرحلة من حياتى الدراسية عندما وقع فى يدى تقرير نشرته صحيفة كريستيان ساينس مونيتور فى الخريف الماضى. يستعرض التقرير المناقشات التى دارت فى مؤتمر تبناه البنتاجون، أى وزارة الدفاع الأمريكية، وشركات تصنيع السلاح وممولون كبار، كان الهدف من المؤتمر تحديد أهم الأخطار التى يمكن أن تهدد أمن وسلامة الولايات المتحدة والأمن العالمى فى «المستقبل العميق»، أى بعد عشرين أو ثلاثين عاما، لا أكثر. قيل إن الهدف من تحديد هذه الأخطار وحشد التوافق اللازم حولها هو «الاستعداد لمواجهتها». تبدأ خطوات الاستعداد بقيام ضباط وزارة الدفاع بوضع مؤشرات دفاعية عامة لصد كل تهديد محتمل، بعضها استباقية والأخرى للمواجهة، وتتولى الشركات بناء على هذه المؤشرات تقديم مقترحات عملية عن أسلحة جديدة وتكنولوجيات حديثة وتصميمات لهذه الأسلحة والتكنولوجيات، ويتولى الممولون مسئولية تخصيص الاستثمارات اللازمة لتنفيذ هذه التصميمات.
•••
كانت المفاجأة أن المؤتمر قرر بموافقة جميع المشاركين، ضباطا كانوا أم خبراء فى المستقبليات أم صناعيين وعلماء أم ممولين ومستثمرين، أن ازدحام المدن وانتشار العشوائيات سوف يكون أحد أهم ثلاثة أخطار كبرى تهدد الأمن والاستقرار السياسى فى العالم، ويهدد بصفة خاصة مصالح أمريكا الخارجية خلال وبعد العشرين عاما المقبلة. قرر المؤتمر أيضا أن الخطر الثانى سوف يأتى نتيجة الآثار الناتجة عن ثورات الربيع العربى، إذ اعتبر عدد كبير من المشاركين أن الآثار الحقيقية والأهم لهذه الثورات لم تظهر بعد، وأنها أكبر وأكثر من كل ما يتوقعه القادة الغربيون وزعماء المنطقة وقادة حركاتها السياسية. أما التهديد الثالث المتوقع للأمن القومى الأمريكى، والعالمى أيضا، فمصدره التطور الهائل فى تكنولوجيا إنتاج نماذج متقدمة من الطائرات بدون طيار والروبوتات تصلح للاستخدام الشخصى. بمعنى آخر يتوقع المشاركون فى المؤتمر أنه فى خلال أو فى نهاية العقدين المقبلين سوف يكون فى حوزة عدد متزايد من الأفراد العاديين طائرات بدون طيار يستخدمونها لأغراض شريرة وإجرامية ومعادية للوطن أو لأغراض بريئة مثل شراء الخضر واللحوم وتبادل الرسائل الغرامية والتنصت على الجيران وعلى مؤسسات الدولة، وسيكون فى حوزتهم أيضا عدد وفير من الروبوتات ووسائط الاتصال الإلكترونية، لا يقدر العقل الراهن على تصور ما يمكن أن يفعله بها الحائزون لها.
•••
على هذا النحو يجب أن تفكر الجيوش وتعمل. تتجاوز الجهود اليومية فى حماية حدود الدولة وحفظ الأمن والاستقرار، إلى التفكير فى الطرق والسبل الكفيلة بإقناع جامعات الدولة على تخريج شبان مؤهلين للتصدى لتهديدات واقعة ومحتملة بعد عشرين أو ثلاثين عاما بل وافتراضية أيضا. تتجاوزها كذلك للانشغال بوضع خطط للدفاع عن مصادر قوة الدولة الناعمة والصلبة على حد سواء ضد تهديدات يجب توقعها بناء على التجارب الماضية وتجارب الأمم الأخرى. لاحظت مثلا أن العسكريين الأمريكيين يتوقعون أن يغلى الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة بالصراعات المذهبية، ويقترحون الاهتمام بإنشاء وتطوير ميليشيات شبه عسكرية ملحقة بالجيوش أو منفصلة فى شكل حرس وطنى أو قوات دفاع مدنى، يعتبرونها الوسيلة المثلى لمواجهة هذا النوع من التهديدات التى لا تقدر عليها الجيوش المنظمة.
يدركون أيضا أن الدبابة أو المدرعة العريضة والثقيلة لن تتحرك بسهولة فى أزقة العشوائيات لمواجهة تهديدات خطيرة، وأن مركبات فى حجم التوك توك قد تكون أفضل وأكفأ. تظل الدبابة مفيدة لحماية الحدود الصحراوية والأماكن المفتوحة ومن الضرورى الاستمرار فى انتاجها، ولكن بعد عشرين عاما ستكون معظم مسارح الحرب كثيفة السكان وغير مفتوحة، وهذه ستحتاج إلى آليات نقل أصغر وطائرات بدون طيار صغيرة الحجم وروبوتات مجهزة خصيصا للتسرب فى الحوارى والأزقة الضيقة تتسلل منها إلى المساكن لتقتل أو تدمر، أو لتصطاد روبوتات العدو وطائراته بدون طيار المخبأة فى عشوائيات المدن.
•••
المستقبل العميق أقرب مما نتصور ويحمل من التهديدات لحياتنا وأمن مجتمعاتنا أكثر مما نتخيل. أجدى للجيوش أن تنشغل بخطر التهديدات المتوقعة فى المستقبل والاستعداد لها والمساهمة فى قيادة جهود التقدم العلمى والحضارى من أن تنشغل بتفاهات السياسة وفسادها وبمناورات الحكم ومتاعبه.