ظلال ريجينى
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 10 أبريل 2016 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
الحقيقة ولا شىء غيرها فى قضية مقتل الباحث الإيطالى الشاب «جوليو ريجينى».
فى طلب الحقيقة تجاوز لتصعيد أوروبى محتمل ينال من كل رهان على تعافى الاقتصاد المنهك، كما أنه يؤكد التزام العدالة وقدرة مصر على التصحيح الذاتى.
ما جرى للباحث الشاب من تعذيب همجى وإلقاء جثته شبه عارية فى طريق عام لا يتقبله الضمير الإنسانى فى إيطاليا أو بأى مكان آخر.
إذا أردنا مدخلا صحيحا لإدارة الأزمة فهو إبداء الاحترام الكامل لكل القيم الإنسانية التى استدعت غضبا عاما على ما لحق بـ«ريجينى» من تنكيل لخص «كل شرور العالم» بتعبير والدته المكلومة.
احترام القيم الإنسانية يبدأ من الداخل، فالكرامة من حق كل مواطن ومنع أى تعذيب واجب دستورى.
باليقين فإن توجيه الاتهامات لأجهزة أمن مصرية بالتورط فى الحادث البشع هو الوجه الأكثر خطورة فى الأزمة المستحكمة.
الاتهامات تتناقلها «الميديا الإيطالية» كأنها من المسلمات، وصداها واصل إلى رأيها العام وداخل أروقة البرلمان والحكم، ممتدا إلى الاتحاد الأوروبى بمؤسساته كلها.
من حيث المبدأ العام لا يصح استباق نتائج التحقيقات وإطلاق الأحكام قبل توافر قرائنها وأدلتها.
هذه مسألة عدالة لها أصول يعرفها العالم ويحترمها.
بذات القدر فإن ذات الأصول تقتضى عدم استبعاد أى احتمال.
إذا لم تكن الروايات مصدقة فإن احتمالات التصعيد مؤكدة.
ما الذى جرى بالضبط؟
أين الحقيقة؟
الإجابة تعنى مصر قبل إيطاليا.
قضية الإيطاليين الوصول إلى القتلة الحقيقيين وتقديمهم إلى العدالة.
أما قضية المصريين فإنها تتجاوز ما جرى إلى سياقه وظلاله وسؤاله: كيف تدهورت سمعة الأجهزة الأمنية المصرية إلى حد اتهامها بالتورط فى قتل وتعذيب الباحث الإيطالى قبل أى استبيان؟
بغض النظر عما قد تسفر عنه التحقيقات، التى يشارك فيها الإيطاليون ويراجعون أوراقها بأنفسهم، فإن صورة الأجهزة الأمنية المصرية تحتاج إلى تصحيح أمام شعبها قبل عالمها.
سواء تورطت أم لم تتورط فى حادث «ريجينى» فإن سجل انتهاكاتها فى التعذيب وضعها فى دوائر الاشتباه.
الاشتباه بذاته مأساة ومواجهة الحقيقة خيار لا مفر منه.
إذا كان هناك من تورط فالحساب الصارم هو الخيار الوحيد.
أى تردد سوف تدفع مصر ثمنه باهظا من سمعتها ومستقبلها.
مواجهة أى انحراف مما يرفع الشأن المصرى.
قوة الدول من قدرتها على التصحيح الذاتى.
بعد نكسة (١٩٦٧) جرت تحقيقات فى انحرافات جهاز المخابرات العامة ولم ينل ذلك من تاريخها وقدرها.
قاد التحقيقات رجلان، أولهما: اللواء «محمد نسيم» أفضل ضابط مخابرات مصرى وفق الشهادات الدولية المتواترة، الذى اشتهر باسم «قلب الأسد».. وثانيهما: المهندس «حلمى السعيد» وزير الكهرباء والسد العالى، وهو مدنى من قلب التنظيم السياسى.
الظروف الآن مختلفة غير أن فكرة الإصلاح تظل ضرورية فى كل الأحوال.
فالانحراف بالسلطة يناقض طبيعة المهام الأمنية.
فى الإصلاح استعادة ثقة يحتاجها الأمن فى حربه مع الإرهاب.
أسوأ خيار ممكن التردد فى مواجهة أى انحرافات بالسلطة باسم الحفاظ على الروح المعنوية لأجهزة الدولة.
هناك فارق بين هيبة الأجهزة التى تكتسبها من ثقة مواطنيها وطبيعة مهمتها وفق القانون، وبين تغولها على مواطنيها والقانون نفسه.
استعادة ثقة المصرى العادى فى أمنه هو المقدمة الأكثر جدية لإقناع العالم بأن هناك دولة قانون فى مصر تحترم حقوق مواطنيها وزوارها على قدم المساواة.
يتابع العالم ما ينشر فى مصر عن الاعتداءات الأمنية شبه اليومية على المواطنين العاديين فى الشوارع وأقسام الشرطة، فضلا عما ينشر موثقا عن وقائع تعذيب لنشطاء سياسيين.
أمام التفلت الأمنى بلا حساب رادع فى أغلب الحالات بدت الشكوك حاضرة والاتهامات مصدقة.
هذه الحقيقة أخطر ما فى قضية «ريجينى».
لم يخترع الإيطاليون، ولا أى أطراف أوروبية أخرى، تلك الصورة السلبية.
التصحيح الممكن يستدعى مقاربة جديدة تؤكد ضرورات الأمن والعمل على تقويته للوفاء بمهامه، فلا دولة فى العالم تستغنى عن أمنها، دون تغول على حقوق المواطنين وحرياتهم العامة.
إذا لم يتم هذا التصحيح فسوف تطل علينا أزمات جديدة ربما أخطر من قضية «ريجينى».
حتى الآن لا يوجد أى إجابة شبه متماسكة على معادلة الأمن والحرية، كيف نحفظ الأول دون تضحية بالثانية.
فى ظلال «ريجينى» حزام من الأزمات المتداخلة.
أزمة الأمن وجه أول.
هذه تستدعى إصلاحا جوهريا فى بنيته وفق رؤى جديدة تستجيب لقيم العصر والدستور وحاجة الأمن نفسه إلى ثقة مواطنيه.
ليس من مصلحة أحد هدم الجهاز الأمنى أو تعميم الاتهامات، فهناك من يبذل دمه فى الحرب مع الإرهاب ويفى بمهام عمله بشرف، غير أن التفلتات تسىء إلى كل تضحية.
مما يستحق النظر فيه تشكيل «لجنة عليا للإصلاح الأمنى» تضم ــ بالإضافة إلى الخبراء الأمنيين المعنيين بالملف ــ أساتذة قانون وحقوقيين ومثقفين.
فى ظلال القضية نفسها أزمة متفاقمة فى ملف حقوق الإنسان وأنين يعلو صوته من خلف أسوار السجون.
أزمة حقوق الإنسان وجه ثان.
وهذه تحتاج إلى خطاب جديد وإجراءات عاجلة تنصف كل مظلوم.
وفق تقديرات المجلس القومى لحقوق الإنسان هناك نحو «ألف» حالة عاجلة بين اختفاء قسرى وحبس احتياطى ومحكومين وفق قانون التظاهر تستحق بتا سريعا.
ومن المرجح أن يقدم المجلس فى اجتماعه المرتقب مع الرئيس «عبدالفتاح السيسى» قوائم واقتراحات.
إذا ما تحرك الملف الحقوقى بصورة ملموسة فإن الظلال قد تنحسر فى قضية «ريجينى» وتتحسن الصورة العامة.
وهناك فى الظلال أزمة ملف الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذى يشهد مضايقات تستدعى ضغوطا دولية قبل أن يجرى إغلاق الملف إلى حين.
أزمة المجتمع المدنى وجه ثالث.
وهذه تحتاج إلى مقاربة جديدة بقانون عادل وتوافقى يحفظ حق المجتمع المدنى فى الحركة وحق الدولة فى الحساب.
غياب القواعد يضعف هيبة الدولة، وفى الظلال أزمة أداء عام مزعجة.
وكان ذلك وجها رابعا وداعيا إلى مزيد من الشكوك وفتح قوس الاتهامات.
أمام إعلام يتبنى نظرية المؤامرة ويتورط فى التحريض على الأجانب وسلطات دولة تصدر بيانات تناقض بعضها الآخر، تؤكد وتتراجع، بدا أن الاستنتاج الوحيد هو تورط الأجهزة الأمنية.
القضية ليست نفى أو تأكيد الفرضية الإيطالية بقدر ما هى تأكيد قيمة العدالة فى هذا البلد، وأن أحدا ليس فوق القانون.
والقضية ليست فى الحفاظ على العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع الشريك الإيطالى، الأكبر بالنسبة لأى دولة أوروبية أخرى، بقدر ما هى تأكيد معانى دولة القانون، فهذه من مقومات جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط عجلة الاقتصاد شبه المعطلة.
بجملة واحدة إجلاء الحقيقة بكل شفافية فى صالح مصر واقتصادها وأمنها ومستقبلها.