مصــــــــر وإثيوبيا.. معادلة التوازن والتعاون
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 أبريل 2018 - 10:30 م
بتوقيت القاهرة
مما لاشك فيه أن نهر النيل بالنسبة لمصـــر يتجاوز ما يعنيه أى نهر فى العالم بالنسبة لأى بلد أو شعب، فالحياة نفسها بالنسبة لمصــــر وهبها الله لهذا الوطن بمقوماته التى يأتى نهر النيل فى صدارتها، ومن أجل ذلك ليكن معلوما لدى القاصى والدانى أن نهر النيل ومياهه هى مسألة ترقى فوق كل مسألة، واعتبارها يرقى فوق كل اعتبار، وهى لمصر بمثابة الصراط المستقيم بين الحياة والموت.
المصريون منذ فجر التاريخ قدسوا ذلك النهر الخالد ورمزوا له بالرمز المقدس «حابى» رمز الخير والخصب والنماء، وهم تعهدوا ذلك النهر بالاحترام والتبجيل والتقديس لدرجة أن جزءا مهما من حساب الثواب والعقاب فى الآخرة لدى المصريين القدماء يتضمن ذلك القسم الشهير «أيتها الآلهة أقسم أننى لم ألوث أبدا هذا النهر العظيم»، ولقد آمن المصريون أن هذا النهر ينبع عاليا من الجنوب من جبال أطلقوا عليها جبال القمر، وحددوا مكانها فى إثيوبيا، وإلى هذه البلاد ومن وإلى السواحل المتاخمة لها فى إريتريا وجيبوتى وبلاد بونت انطلقت السفن البحرية التجارية المصرية منذ أقدم العصور تؤسس لعلاقات تاريخية من التبادل التجارى بين شعب مصر وشعوب تلك البلاد الصديقة، وفى مرحلة تاريخية لاحقة تأسست بين مصر وإثيوبيا علاقات دينية روحية وطيدة، ففى قلوب ملايين المسلمين المصريين الموقف العظيم للنجاشى فى استقباله للمهاجرين المسلمين وايوائه وحمايته لهم.
أما الكنيستان القبطيتان المصرية والإثيوبية فتربطهما علاقات تاريخية راسخة منذ القرون الأولى للمسيحية، ولاسيما منذ قيام الأنبا اثناسيوس بابا الإسكندرية بسيامة الأسقف فرومنتيوس عام 329م ليكون أول أسقف لإثيوبيا بناء على طلب الملكين المسيحيين الإثيوبيين ابراها، واتشيبا، وقد أعطى هذا الأسقف اسم الأنبا سلامة، وبدأ أسقفيته فى إثيوبيا سنة 330م، وبذلك أسست كنيسة الإسكندرية كرسى الأسقفية لكنيسة إثيوبيا، التى أصبحت جزءا من كرازة القديس مرقس الرسول، واستمرت كنيسة الإسكندرية فى سيامة وإرسال اسقف لكرسى إثيوبيا، وبناء على طلب من الكنيسة الإثيوبية بدأت كنيسة الاسكندرية فى سيامة العديد من الأساقفة لايبارشيات إثيوبيا، وتقديرا للكنيسة الإثيوبية وبناء على طلب منها توجت كنيسة الاسكندرية الأب باسيليوس عام 1959 كأول رئيس لكنيسة إثيوبيا.
وفى 25 يونيو 1968 احتفلت مصر رسميا بافتتاح الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة بحضور الرئيس جمال عبدالناصر والإمبراطور هيلا سلاسى إمبراطور إثيوبيا، كما كان للرئيس جمال عبدالناصر رؤيته الاستراتيجية فى تأييد ومساندة أن تكون العاصمة الإثيوبية هى مقر منظمة الوحدة الإفريقية.
***
وتتشارك مصر وإثيوبيا طرفى المصب والمنبع لنهر النيل الذى ينبع من مصدرين رئيسيين هما الهضبة الإثيوبية، التى تشارك بنحو 71 مليار م3 تمثل 85% من إيراد نهر النيل من خلال ثلاثة أنهار رئيسية هى النيل الأزرق ــ أباى 50 مليار م3، ونهر السوباط باروــ أكوبو 11 مليار م3، ونهر عطبرة تيكيزى 11 م3، وهضبة البحيرات الاستوائية التى تشارك بنحو 13 مليار م3 تمثل 15% من إيراد نهر النيل وتأتى من بحيرات فيكتوريا، وكيوجا، وإدوارد، وجورج، وألبرت.
ويقع سد النهضة ــ الألفية باللغة الأمهرية هداسى جاديب فى نهاية النيل الأزرق فى منطقة بنى شنقول جوموز وعلى بعد نحو 20ــ 40 كم من الحدود السودانية، وكجزء من السياسة الثابتة والدائمة لمصر ترحب مصر من جانبها بأى عمليات أو مشاريع تنموية بما فيها بناء ذلك السد شريطة ألا يمس ذلك أدنى مساس بحقوقها التاريخية الثابتة فى مياه النيل، والتى تكفلها المعاهدات والاتفاقات والقوانين الدولية.
وهذا القلق المشروع من مصر كدولة المصب يأتى انطلاقا من اعتبارات عدة، أولها أن عدم الاتفاق على تحديد الفترة اللازمة لملء خزان السد بين الدول الرئيسية الثلاث المعنية به، واقتصارها على فترة زمنية غير متفق عليها قد تتسبب فى حدوث انخفاض مرحلى فى مستوى المياه فى مجرى نهر النيل نظرا لفترة ملء الخزان، وانخفاض دائم بسبب التبخر من خزان المياه، حيث يبلغ حجم خزان السد نحو ما يعادل التدفق السنوى لنهر النيل على الحدود السودانية المصرية 65,5 مليار متر مكعب، ومن المرجح أن تنتشر هذه الخسارة فى الإيراد المائى إلى دولة المصب على مدى عدة سنوات، وتشير التقديرات إلى أنه خلال فترة ملء الخزان من الممكن أن يتم فقد من 11 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنويا، مما قد يتسبب فى خسارة مليونى مزارع دخلهم خلال فترة ملء الخزان، وانخفاض منسوب المياه فى بحيرة ناصر، والتأثير سلبيا على إمدادات الكهرباء فى مصر بنسبة 25 % إلى 40 % .
وقد وافقت مصر مبدئيا على التقرير الاستهلالى الذى أعده المكتب الاستشارى لعمل الدراسات الفنية لتحديد آثار سد النهضة على مصر والسودان، باعتباره جاء متسقا مع مراجع الإسناد الخاصة بالدراسات، والتى تم الاتفاق عليها بين الدول الثلاث، إلا أن طرفى اللجنة الآخرين لم يبديا موافقتهما على التقرير، وطالبا بإدخال تعديلات على التقرير تتجاوز مراجع الإسناد المتفق عليها، وتعيد تفسير بنود أساسية ومحورية على نحو من شأنه أن يؤثر على نتائج الدراسات ويفرغها من مضمونها.
وقد اقترحت مصر مشاركة البنك الدولى كطرف فنى، له رأى محايد وفاصل فى أعمال اللجنة الفنية الثلاثية لسد النهضة فيما يطرح بخصوص المسار الفنى للمفاوضات والمقررات التى تقدم من الشركة الدولية الموكل إليها الانتهاء من الدراسات الخاصة حول التأثيرات المترتبة على مشروع سد النهضة، خاصة بعد رفض إثيوبيا والسودان التقرير المبدئى الخاص بالدراسات الفنية التى يعدها المكتب الاستشارى لتحديد آثار سد النهضة على مصر والسودان، هذا الطلب بإشراك البنك الدولى هو فى صالح جميع الأطراف لما للبنك الدولى ووحداته من خبرات كبرى فى مجال مشروعات بناء السدود فى العديد من الدول بما يمكن الاستفادة منها وانعكاسها ايجابيا على الموقف الراهن وبما تطمئن إليه جميع الأطراف.
وقد حرصت مصر على إبداء تفهمها الكامل للأهداف التنموية لبناء السد، وحرصت على بيان حرصها على تعزيز العلاقات الأخوية مع إثيوبيا وترجمة الإرادة السياسية والنوايا الحسنة بين البلدين إلى نتائج وثمار ملموسة تلمسها الشعوب وهو ما سيأتى عبر استكمال إجراءات بناء الثقة وتعزيز التعاون فى كل من مجالات التجارة والاستثمار وتكنولوجيا المعلومات والصحة والصناعات الدوائية وإرسال القوافل الطبية، فضلا عن التعاون فى إقامة المناطق الصناعية والاستثمار الزراعى وكذا مسار تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين بما يحقق المصالح المشتركة للشعبين المصرى والإثيوبى.
***
الخميس الماضى انعقدت فى الخرطوم جلسة جديدة للمفاوضات استمرت لأكثر من 18 ساعة متواصلة للتوصل إلى اتفاق يرضى جميع الأطراف ويقلل من أضرار التخزين واعتماد التقرير الاستهلالى لدراسات تأثيرات السد، لكن لم يتم التوصل لاتفاق حول البنود الخلافية التى اعترض عليها الوفد الإثيوبى فى الثوابت المصرية الحاكمة فى المفاوضات، والتى تتمثل فى ضرورة أن تخرج الدراسات بنتائج واضحة عن تأثيرات السد السلبية على الأمن المائى المصرى، خصوصا معدلات تدفق المياه إلى بحيرة السد العالى بصورة واضحة وبما يضمن حصول مصر على كميات المياه المستخدمة حاليا، كذلك تأثيراته على نسب الملوحة فى الأراضى الزراعية المصرية فى الدلتا ومقارنة الوضع مع بداية التخزين بالميزان المائى الحالى من حيث كميات المياه فى الدلتا بالتوازى مع منسوب المياه فى البحر، وتأثيره على انخفاض نسب توليد الكهرباء فى السد العالى، ومن ثم أهمية التزام الجانب الإثيوبى بمسار الدراسات الفنية وإنجازها فى توقيت سريع ومحدد وضمان تنفيذ بنودها بما يحقق المصالح المصرية ويقلل من نسب الضرر المتوقعة.
وإلى الآن فإن ما قدمه الجانب الإثيوبى لا يتعدى كونه معلومات عامة حول رؤيته للتخزين، كما أنها معلومات غير موثقة فنيا، ولا يمكن الاعتماد عليها فى تقييم أثر تلك العملية على الأمن المائى المصرى وتدفقات المياه وكمياتها إلى مصر، وعلى الجانب الآخر فإن الموقف المصرى ملتزم تماما ببنود العقد الموقع مع المكاتب الاستشارية لإتمام الدراسات الخاصة بالسد، وكذلك مراجع الإسناد والسيناريو الذى يبنى على أساسه الدراسات، حيث نص العقد صراحة على أن السيناريو المرجعى والذى سيتم تقييم الضرر وفقا له هو النظام المائى الحالى للنيل الشرقى دون سد النهضة، وقواعد التشغيل الحالية للسدود متضمنة السد العالى، وهو ما ارتضت به القاهرة فنيا، على الرغم من أنه لا يكفل جميع الحقوق المصرية كليا، لكن كانت الموافقة على أساس أن الدراسات المنطلقة من تلك الافتراضات كانت ستعطى نتائج واضحة عن مدى الضرر الذى يمكن أن تتعرض له مصر جراء إنشاء السد.
***
هنا يبرز سيناريوهان بشأن الأزمة، وخاصة بعد تولى رئيس وزراء إثيوبيا الجديد أبى أحمد، يتمثل الأول فى تجاوب رئيس الوزراء الإثيوبى مع المطالب المصرية المحقة والعادلة تدريجيا، واستمرار الجانب المصرى فى إجراء مباحثات ومفاوضات بشكل مستمر مع الجانب الإثيوبى لضمان تحقيق مصالح جميع الأطراف، أما السيناريو الثانى، فهو استمرار الجانب الإثيوبى فى سياسة المراوغة والتسويف وهنا قد يتعين الاستعانة بوساطة إقليمية ودولية للوصول لحل للأزمة، وقد يقتضى الأمر تقديم مصر احتجاج رسمى إلى مجلس الأمن الدولى، وعرض حقها المنصوص عليه فى اتفاقية عام 1959 واتفاقية عام 1929 وتتضمنان حصة مصر من مياه النيل، والتأكيد على منع الإضرار بحصة مصر من مياه النيل، وهذا هو المبدأ الأول يليه المبدأ الثانى وهو تنفيذ إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث لعام 2015 لحماية حقوق كل طرف.
ويجدر أن نؤكد أن مسار التفاوض الإيجابى البناء سيظل هو المسار الأفضل للجميع ولتحقيق مصالحهم بمعادلة دقيقة توازن بين جميع الأطراف، وأى مسار آخر قد يخيل للبعض تحت أى مسمى أو دافع أو هدف قد تصوره تقديرات معينة أو رؤى ما لطرف من الأطراف لن يؤدى إلا لعاقبة الأمور فى أمر هو مسألة ترقى إلى الحياة نفسها بالنسبة لمصر، الأمر الذى لا يحتمل مثقال ذرة من الخطأ أو العبث مع شعب مصر الذى اعتاد أن ينظر إلى نهر النيل بدرجة ترقى إلى درجة القداسة وتساوى بين مياهه وبين الحياة ذاتها.