رمضان فى تراث العقاد!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 10 مايو 2019 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
كان حلول رمضان من المناسبات التى تحظى باهتمام فائق من الكتاب والمؤلفين ورؤساء تحرير الصحف الثقافية (والمكان هنا مصر، والزمان فى النصف الأول من القرن العشرين)، وكان كبار الكتاب يتبارون فى ما سوف يكتبون ويقدمونه للقارئ، خصيصا، من مادة ورؤية جديدة أيضا، يخالفون بها ما درج عليه الوعاظ والشيوخ المعممون، وكتاب المقالات التقليدية فى الصحف الدينية من اجترار المواد المتعلقة برمضان، من أول الآيات التى تناولته، ومناسبات النزول، والأحاديث النبوية التى تتحدث عن فضائل الشهر الكريم وفضل الصيام وجزاء الصائمين.. إلخ!
من هنا تأتى أهمية وفرادة وقيمة ما كتبه كبار كتابنا من أعلام النهضة الفكرية والأدبية، فى النصف الأول من القرن العشرين؛ كل بحسب ثقافته، وتياره الفكرى ومسلكه العقلانى، وثقافته الإنسانية والتاريخية والدينية.
ممن قدموا زادا وفيرا وعميقا وممتعا حول الشهر الكريم، وما يتصل به من مباحث ونظرات رائعة ومعارف جديرة بالقراءة والاطلاع، الرائد الكبير عباس محمود العقاد (1889ــ 1964). من المفارقات اللافتة فى حياة العقاد ارتباط إنتاجه بشهر رمضان، خصوصا بعد أن رسخ اسمه كأحد كبار الكتاب فى مصر والعالم العربى (إن لم يكن أكبرهم فى نظر مريديه وأتباعه ممن عرفوا باسم العقاديين). ارتبط شهر رمضان الكريم بصدور كتاب جديد من كتبه الغزيرة، فقد كان العقاد من نجوم الكتابة والتأليف فى مصر والعالم العربى والإسلامى، وكان الإعلان عن صدور كتاب جديد للعقاد كفيلا بضمان نفاد نسخه كاملة قبل طرحها لدى باعة الكتب والمكتبات.
تراث العقاد؛ الفكرى الأدبى والإسلامى، تراث عريض ممتد، جاء نتاج ثقافة غزيرة عميقة قل أن تتوافر لآحاد الناس؛ كتب فى جوانب الفكر الإسلامى؛ تفسيرا وحديثا وتشريعا وأصولا وتراجم ولم يترك فرعا من الفروع أو علما من العلوم لم يترك فيه رسالة وافية أو مقالة شافية أو كتابا محيطا بموضوعه.
لقد كتب الكثيرون عن الشهر الفضيل، ولكن عندما يكتب العقاد عن «رمضان» فإن كتابته عن الشهر الكريم لها مذاق خاص وفرادة وتميز فى اختياره للموضوعات أو الزوايا التى سيتناولها فى كتابته عن رمضان؛ ولن يجد الباحث أو الدارس فى كل ما كتب عن الشهر الكريم ما يغنى عما كتبه العقاد من مقالات رفيعة ومهمة؛ إذ عرف عن العقاد ولعه بالبحث والمقارنة والتجوال بعيدا فى أرجاء الموضوع الذى يكتب عنه، كما كان حريصا على أن تكون المادة التى يكتبها مختلفة ومتميزة، يقدم من خلالها الجديد الطريف مما لم يسبق لأحد أن تناوله رغم كثرة من كتبوا عن رمضان، وتناولوه من زوايا متفرقة.
ومن سمات العقاد المعروفة فى نتاجه الفكرى والأدبى أنه يسلط الضوء على زوايا خافية فى موضوعات قد تبدو تقليدية أو اعتيادية لا مجال فيها لجديد يطرح أو معرفة تضاف، لكن العقاد بقدرته الفائقة فى التقصى والاستقراء، الإحاطة بموضوعه وإحصاء مادته وملكاته العظيمة فى الجمع والاستدلال والاشتقاق، استطاع دائما أن يخرج ويستخرج الجديد والطريف معا من أى موضوع قديم أو حديث ومهما كان مطروقا أو تقليديا، بما أوتى من سعة النظر ودقة الملاحظة وعمق التحليل وهندسة التناول.
جمع العقاد طائفة معتبرة من مقالاته التى كتبها عن «رمضان»، و«الصيام»، و«ليلة القدر»، و«الأعياد الدينية» فى كتابه الجميل الممتع «عالمية الإسلام»، وهو كتاب يشتمل على مقالات العقاد التى نشرها فى مناسبات مختلفة، وفى صحف ودوريات عصره مثل «الرسالة»، و«الثقافة»، و«الهلال»، و«الأزهر»، لكنها تتفق فى النهاية فى مجموعة من المباحث الطريفة والعميقة لموضوعات دينية من وجهتها التاريخية والفلسفية، يعالجها العقاد بما تميز به من عمق فى التحليل وهندسة فى العرض.
والحقيقة أن مراجعة ما كتبه العقاد فى هذا السياق (وأيضا ما كتبه كبار الكتاب فى هذه الفترة) يكشف عن جوانب من البحث وطرائق فى العرض والتفات إلى تفاصيل ودقائق تاريخية ومعرفية وإنسانية تجعل المرء فى حيرة من أمره؛ فالأمر لا يقتصر على الإعجاب فقط، ولا المتعة ولا الفيض الغامر بهذه النشوة المعرفية الحقيقة؛ إنه يتجاوز كل هذا فى سياق الفترة التى كانوا يكتبون فيها ويقدمون خلاصة معارفهم وقراءاتهم لقارئ يحترمونه ويجلونه.. وللحديث بقية.