أطفال الشوارع يدخلون جامعة هارفارد
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الأحد 10 يونيو 2012 - 8:25 ص
بتوقيت القاهرة
يوم الخميس الماضى أكملت داون لوجنز دراستها المدرسية، وتخرج من مدرسة بيرنز الثانوية.
وداون تلميذة لم يتعد عمرها 18عامًا بعد، ودفعتها الظروف للاستيقاظ يوميا قبل مطلع الفجر لتغسل طرقات وسلالم وفصول مدرستها الحكومية فى مدينة لوندال بولاية كارولينا الشمالية.
وكان أكثر ما يضايق الطفلة الصغيرة هو تضررها من جمع مخلفات طعام زملاء فصلها، وزجاجات المياه الغازية الفارغة من أركان الفصول المختلفة، إذ ترى أن هناك صناديق زبالة مخصصة لإلقاء المخلفات بها فى كل مكان بالمدرسة.
ترك القدر التلميذة داون فى الشارع، وأصبحت طفلة مشردة Homeless مع بدء العام الدراسى الأخير من تعليمها الثانوى، وذلك بسبب إدمان والديها للمخدرات ما أدى إلى طردهم جميعا من مسكنهم، ولم يجدوا سوى الشارع ملجأ.
قبل 17 عاما ولدت داون لأسرة فقيرة لدرجة قطع الماء والكهرباء عن منزلهم بسبب عدم قدرتهم على دفع تكلفتهما. وكانت داون تمكث بالأسابيع دون استحمام، وكانت تسير مع أخوها الأصغر لمدة 20 دقيقة يوميا لحديقة عامة تقضى بها حاجاتها، وتشرب هناك ماء يكفى اليوم.
ثم انتقل الوالدان لولاية تينيسى المجاورة بعد طردهم من ملجأ المشردين وانقطعت صلتهم بابنتهم. وخشيت التلميذة الصغيرة أن يتم تسليمها لمسئولى إدارة رعاية المشردين بالمدينة، واضطرت لقضاء أيام وأسابيع فى الشوارع، وكانت تنام فى الحدائق والجراجات، وأحيانا فى بيوت أصدقائها. وعلمت إدارة المدرسة ما جدَّ فى حياة داون، إلا أن المسئولين بالمدرسة الثانوية لم يرضوا أن تصبح أحدى تلميذاتهم مشردة لأسباب ليس لها يد فيها. تناوب المدرسون والموظفون وسائقو حافلات المدرسة استضافة التلميذة الصغيرة فى بيوتهم، ومنحوها عملا فى مدرستها «عاملة نظافة» كسبت منه قليلا من المال. وكانت داون تعمل يوميا من الساعة الخامسة حتى الثامنة صباحا، وتحضر بعد ذلك حصصها حتى الثانية عصرا، ثم تقوم بتنظيف حديقة المدرسة، قبل أن تبدأ مذاكرة دروسها فى المساء.
لم تكن داون من أشطر التلاميذ، ولا من أفضلهم أكاديميا، وكانت تحصل على درجاتها فوق المتوسط بقليل، إلا أنها كانت تتفوق فى مواد العلوم. وكانت تريد فقط أن تنال فرصة الدخول للجامعة حيث يبعدها ذلك عن المصير الذى انتهى إليه والداها. وتم دعوة داون الصيف الماضى لحضور برنامج يشرف عليه حاكم الولاية للطلاب المتفوقين فى مواد العلوم فى مدينة تبعد 300 كيلو عن مدينتهم. وساعد المدرسون داون على المشاركة فى هذا البرنامج، وكانوا يقومون بتوصيلها، وشراء ما تحتاجه من مستلزمات دراسة وملابس.
ومع قرب انتهاء السنة الأخيرة من تعليمها الثانوى، قدمت داون لخمس جامعات للدراسة فى أحدهم. أربعة منها جامعات حكومية فى ولايتها حيث تتمتع حال قبولها بدفع مصروفات قليلة لأنها من المقيمين بالولاية، وقدمت أيضا فى جامعة الأحلام «هارفارد» التى تراود كل طالب علم حالم بمستقبل مختلف. ولم تعهد مدرسة بيرنز الثانوية من تلاميذها أن يتجرأ أحدهم ويقدم طلبا للقبول بإحدى الجامعات الأمريكية الكبرى.
وطلبت داون من مدرس التاريخ أن يكتب لها خطاب توصية Recommendation Letter لجامعة هارفارد.
وما كان من الأستاذ إلا أن كتب تفاصيل قصتها كما يعرفها، وأشار إلى تفاصيل معاناتها الشخصية، وكتب كيف عرفت الجوع وكيف عرفت النوم فى الشوارع، وكيف عرفت الفقر والمعاناة. وأوضح كذلك تصميمها على النجاح، وعلى إيمانها بأنها ستكون إضافة مهمة لجامعة هارفارد، وعلى أنها تستحق هذه الفرصة من هذه الجامعة العريقة.
وردت الجامعات الأربع الحكومية بقبول داون على أن تبدأ دراستها الجامعية فى الخريف المقبل، وكانت تفاضل فيما بينهم. إلا أنها تلقت بعد عدة أسابيع، وبعد انتهاء عملها فى تنظيف حديقة المدرسة، خطابا من جامعة هارفارد جاء فيه «نحن نفتخر أن نخبرك أن لجنة القبول بجامعة هارفارد قد قررت قبولك للدراسة فى الدفعة التى ستتخرج عام 2016، ونحن نرسل هذا الخطاب فقط لمن نراه مميزا من الطلاب المتقدين». ولم يتم قبول داون فقط فى جامعة هارفارد، بل وفرت الجامعة لها منحة دراسة تشمل كافة مصاريف الدراسة والسكن والطعام، إضافة لتوفير عمل لها داخل الجامعة.
واحتفل جميع أهالى قرية لوندال بخبر قبول داون فى جامعة هارفارد، وقرروا التبرع لشراء تذكرة طائرة ذهاب وعودة وتكلفة عدة أيام فى فندق حتى تذهب التلميذة الصغيرة لتشاهد جامعة هارفارد ومدينة بوسطن قبل الانتقال إليهما رسميا فى نهاية أغسطس المقبل. وكانت هذه هى المرة الأولى للتلميذة الصغيرة التى تغادر فيها ولاية كارولينا الشمالية، والمرة الأولى كذلك التى تركب فيها طائرة.
وبعدما عرف الإعلام الأمريكى بقصة داون، انهالت البرقيات المهنئة لها من كل أرجاء العالم، وعرض الكثيرون تقديم مساعدة مالية لها. إلا أن التلميذة الصغيرة رفضت الدعم المادى مؤكدة أن حصولها على المنحة الجامعية، وتوفير عمل لها هى كل ما تحتاجه الآن وللسنوات الأربع القادمة.
وتحلم داون الآن بأن تنهى دراستها، بعدها تؤسس منظمة أهلية ترعى الأطفال والتلاميذ المشردين من أولاد الشوارع ومنحهم فرصا مساوية لأقرانهم من أطفال الشقق والبيوت.
تابعت هذه القصة أثناء مشاهدتى أخبار قتل عشرات الأطفال الأبرياء فى مدن وقرى سوريا على شاشات السى إن إن. ورغم مشهد السياسة العبثى الذى تشهده مصر حاليا، كانت تلك القصة كافية لضخ جرعة مطلوبة من الأمل فى استمرار ثورة شعب مصر، على الأقل، لتمكن كل أطفالنا، أطفال الشقق والبيوت وأطفال الشوارع من الحصول على فرص متساوية فى الحياة والتعليم والصحة.