المعلمون والتحول عبر عادات العقل والوجدان
ملك زعلوك
آخر تحديث:
الأحد 10 يونيو 2018 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
جذبت التجربة الفنلندية فى التعليم إعجاب العالم أجمع، وركزت الأنظار على جودة المدارس وتفوق التلاميذ ولم يتم تسليط الأضواء بشكل كاف على أهم عنصر من عناصر التفوق الفنلندى، ألا وهو عنصر إعداد المعلمين. والإعداد هنا يؤول لعملية معقدة وطويلة الأمد وعميقة الأثر وتتم من خلال مؤسسات تربوية وفى حالة فنلندا (ودول عديدة مماثلة) يتم الإعداد من خلال كليات التربية عبر سنوات طويلة قد تصل إلى خمسة أعوام أو ما يزيد ليتم تشكيل هوية المعلمين وإمكانيتهم. ومن المفيد والمهم أن نميز بين الإعداد والتأهيل المبدئى والتنمية المستدامة للمعلمين من ناحية والتدريب من ناحية أخرى. فمن خلال الإعداد، وخاصة فى التجربة الفنلندية وغيرها من النماذج الناجحة يتم تشكيل معلم ملتزم كامل المواصفات من النواحى العقلية والوجدانية والأخلاقية وتبدأ برامج الإعداد من خطوات عديدة منها الوفاق المجتمعى على عدد من القيم الاجتماعية مثل العدالة والعدل ثم عدد من المواصفات التى يتحقق من خلالها تخريج معلم كفء قادر على قيادة العملية التربوية ودائم التطور والالتزام الأخلاقى. قبل القبول إلى كليات التربية يخوض المتقدمون اختبارات مقننة حول معارفهم واتجاهاتهم ولكن الأهم من ذلك تتم مقابلات جادة وحوارات تكشف النقاب عن صلاحية المتقدم والالتزام بمتطلبات المهنة وذلك من خلال تشخيص ومعرفة الدوافع الكامنة بداخله والسمات الشخصية والقدرة على التعليم والتطور لدى المتقدم.
ورغم أن تواضع رواتب المعلمين فى فنلندا، فهى ليست الأكثر ارتفاعا مقارنة بالمهن الأخرى، فإن التدريس من أكثر المهن جاذبية وخاصة لدى الشباب؛ لأنها مهنة تسمح بالابتكار والاستمتاع بالعمل والأهم من كل ذلك فهى مهنة تحوز بدرجة عالية من الاحترام والاستقلالية فى الممارسة والأداء، يقود المعلمون العملية التربوية داخل المدرسة والصف الدراسى ويعتبرون الخبراء فى تطوير المناهج مسئولين عن بناء المعرفة والنظرية التربوية من خلال مجموعة من عادات العقل والوجدان من أهمها التأمل والتفكر والبحث العلمى والتقصى والممارسة المهنية بشكل مبتكر.
***
تعد الكلية معلم المستقبل القادر على دمج المعارف وتحليل المواقف والتوسع فى استخدام التكنولوجيا كأداة لإثراء المعرفة، ومن خلال قدراته فى التفكر والتأمل والبحث يستطيع هذا المعلم أن يضع إطارا فلسفيا وعمليا متكاملا للتدريس، فلا تنحصر أمانى وآمال هذا المعلم فى الوصول إلى طريقة محددة فى التدريس، الأمر الذى قد يحققه من خلال تدريبات محدودة، بل يأمل معلم المستقبل أن يكون فلسفة واسعة موجهة لاستراتيجيات التدريس التى يستخدمها والتى يستطيع الدفاع عنها بالأدلة والبراهين العلمية. فالمعلم فى هذه الحالة هو صانع للمعرفة النابعة من واقعه وبشكل منهجى وعلمى. أثناء الإعداد يتم ترسيخ عادات العقل والوجدان المطلوبة لتخريج معلم مؤهل للبدء فى طريقه للتعلم مدى الحياه ومن الحياة والممارسة. أما التنمية المهنية المستدامة فيأتى دورها فى الإلمام بما هو حديث وكذلك فى المزيد من التفكر Reflection لتحليل المواقف التى تواجه أصحاب هذه المهنة الجليلة. التحول الحقيقى والعميق يأتى من خلال الإعداد ثم التنمية المهنية المستدامة. أما التدريبات السريعة فهى قد تفيد فى تعديل السلوك فى مواقف محددة. فالمدخل السلوكى يختلف عن المدخل البنائى لتكوين وترسيخ المعارف والفلسفات الحاكمة. ولضمان إنجاح التحول العميق أثناء الإعداد فلابد من ثلاثة أركان هامة:
الركن الأول: الوضوح فى القيم والمواصفات التى يجب أن يتحلى بها الخريج.
الركن الثانى: تقليص الفجوة بين النظرية والتطبيق والحوار الدائم بين الممارسة والتفسير العلمى والنظرى للظواهر.
الركن الثالث: فيكمن فى انتقاء الملتحقين لكليات التربية لتقديم البرامج التى يتحقق من خلالها مواصفات الخريج.
ويسعدنى أن أنوه للجهد العظيم التى قامت به لجنة قطاع الدراسات التربوية فى المجلس الأعلى للجامعات من تقديم المواصفات لخريجى كليات التربية فى مصر والتى تم الوفاق عليها بالإجماع، وقد صاغ هذه المواصفات أساتذة أجلاء من كليات التربية المصرية وشرفت بانضمامى لهذا الفريق المتميز والذى وضع الخطوات الأولى للتطوير المتكامل.
***
وتتلخص هذه المواصفات فى الآتى:
اــ أن يكون خريج كليات التربية متمكنا من المعرفة سواء فى مجال تخصصه أو خارج تخصصه ومتعارفا على المستجدات والاتجاهات المعاصرة ويستطيع دمج المعارف وربطها ببعض بشكل متكامل ومتعدد الأوجه.
2ــ ممارس متفكر ومبدع يوظف نتائج البحوث العلمية وإمكانيات التكنولوجيا الحديثة فى الاستراتيجيات المبتكرة للتعليم والتعلم ولإدارة البيئة الصفية حتى يستطيع إنجاح التعلم النشط المتمركز حول الطفل.
3ــ باحث متمكن من التفكير العلمى الذى يؤهله على تشخيص وحل المشكلات المرتبطة بأداءاته المهنية.
4ــ متواصل ومتعاون ويشارك بفاعلية فى مجموعة عمل مهنية وتعلمية.
5ــ متعلم مدى الحياة وينمى ذاته مهنيا مع الاستعداد بالانتقال بمرونة بين المسارات المهنية المختلفة.
6ــ قائد للتغيير ويدرك دوره كقائد لتطوير التعليم والتعلم وتنمية المجتمع من حوله.
7ــ صاحب رؤية أخلاقية يفتخر بانتمائه لمهنة التعليم ويشارك فى تنمية قيم الانتماء الوطنى والديمقراطية والتسامح وقبول الآخر.
ويتطلب استدخال القيم وعادات العقل والوجدان التى تستند عليها المواصفات عملا مستمرا وجادا عبر سنين طوال وذلك من خلال تقليل الفجوة بين النظرية والتطبيق وكذلك عبر استحداث برامج تؤهل وتساعد على التحول المرموق لدى المعلم حتى يتسنى له المساهمة فى قيادة التحول المجتمعى الشامل المنشود.