لن يتركنا القمر
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 10 يونيو 2020 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
بدأت الحياة تعود إلى ما كانت عليه منذ شهور حيث أعيش. يفتح الناس من حولى شبابيك بيوتهم فتدخل أشعة الشمس والقمر إلى غرف النوم وتطرد سباتا خيَّم على الأرواح حتى جمدت أطرافها. بدأت أصوات الشارع بالتسلل إلى داخل البيوت وها هى قصص البيوت يعلقها أصحابها على الشرف وكأنهم يمدون الغسيل النظيف ليرفرف بالهواء وعلى مرأى من الجيران، تتطاير كلمات لتصلنى حيث أجلس وكأنها دعوة للخروج إلى الشارع، بعد ثلاثة أشهر على توقف كل شىء، عادت أسئلة الأصدقاء عن مواعيد اللقاء.
***
طبعا هى أسئلة ما زالت دون أجوبة كاملة فى الوقت الحالى، إذ إن العودة إلى إيقاع الحياة ما قبل الجائحة ما زالت محكومة بشروط صارمة، على الأقل عند من يعيش فى بلد فرض إجراءات مشددة للتعامل مع الأزمة الصحية، وعند من قرر أن يأخذ الإجراءات على محمل الجد إن أمكن، لكن ثمة شعور بالخفة بات يدخل إلى القلوب بعد أسابيع من ثقل التباعد.
***
تغيرت علاقتى مع الزمن بشكل كبير خلال فترة ابتعادى عن الناس، بات من السهل على الاستسلام لرتابة الأيام وتكرار بنية يومية وضعتها حول التزاماتى المهنية (حتى لو عن بعد) وواجباتى العائلية وبعض الاتصالات مع الأهل والأصدقاء. أصبحت أيامى كلها متشابهة ولم يعد هنالك فرق بين الأحد والخميس وغيرهما من الأيام. فى الوقت ذاته، وجدت نفسى أدخل فى زمن بعيد لم أزره منذ مدة كبيرة، عدت إلى قصص حدثت فى طفولتى وحاولت أن أعيد قراءتها بمساعدة أدوات اكتسبتها مع الوقت. غريبة هى القدرة على استحضار أحداث قديمة والعودة فى لحظة إلى ذلك الموقف لأجد أن عمرى خمس سنوات وأقف على طرف غرفة أنظر إلى من فيها بعيون السيدة الناضجة التى أنا هى اليوم.
***
سيدة فى جسد طفلة، طفلة فى جسد سيدة، والزمن من حولى معلق مع فاصل طوله نحو الأربعين عاما. إعادة حياكة قصص قديمة بحلة جديدة وخلق سردية تبقى على بعض من القديم مع خيوط سرد جديدة هى عملية معقدة: أن أنبش فى صندوق ذكريات دفنته بعيدا فأخرج منه قصصا ألونها باهتة أحاول أن أرسم فوقها باللونين البرتقالى والأصفر، أن أخرج ثوبا قديما وأخيط على أطرافه قطعا مزركشة، أن أمد يدى داخل بقجة كنت قد أحكمت ربطها فأجد أغانى أطفال لم أسمعها منذ كنت أنام فى حضن جدتى أيام إجازة الصيف.
***
توقف الزمن أسابيع ففرض على أن أعود أدراجى فى نفق طويل وجدت طفلة تمسك دمية طرية تقف عند مدخله وتنظر فى داخله. أهلا يا صغيرة، هل تعرفين من أنا؟ إن حكيت لك قصصا من داخل هذا النفق هل ستصدقينها؟ هل ستغيرين بعضها؟ هل ستمشين داخله بحذر؟ سوف أنتظرك على الطرف الثانى منه لأسمع منك ما مررت به. سوف يستغرق المشوار قرابة الأربعين عاما، وها أنا أحاول أن أسهِّل عليك الطريق فأحكى لك عم قد ينتظرك.
***
البارحة كان عمرى عشرين تقول الأغنية الشهيرة. البارحة كان عمرى خمسة، أقول لنفسى. وغدا سيكون عمرى سبعين، أقف ما بعد النفق وأعود لأزور سيدة كانت تزور طفلة. ماذا سأقول للسيدة؟ هل أحكى لها عم ينتظرها فى رحلتها؟ هل أعطيها بعض مفاتيح الرحلة أم أدعها تكتشف بنفسها وتلتقى بى عند مخرج النفق؟ هناك، عند الطرف الآخر، تمسك السبعينية بيد الأربعينية التى تمسك بيد الطفلة. ثلاث حيوات تحكى كل منها للاثنين الأخريين عم مرت به، وهكذا تكتمل الرؤيا وكأنه صندوق الدنيا الذى كان يأتى به الساحر إلى الحارة قد ظهر أمامنا، ننظر من تحت الستارة فنرى شخصيات تتحرك ونضحك، نعم نضحك على مغامرات الشخصيات الثلاثة.
***
البارحة حين كان عمرى خمس سنوات أمسكت القمر بيدى وسحبت معى شعاعا فضيا أنار النفق وأنا أحاول ألا أقع. لقد وقعت طبعا لكن نور القمر ساعدنى على الوقوف من جديد. اختفى القمر أحيانا فحل من حولى ظلام أخافنى، ثم عاد الشعاع ومد لى القمر يده فأمسكته. مشيت مع القمر سنة بعد سنة وها أنا أكسر جزءا من نوره لأعطيه لابنتى فى عامها الخامس علها تفهم أن طريقها طويل لكن ثمة لون فضى سوف يرافقها ويبعد عنها الخوف.
***
غدا حين أكون فى السبعين، سوف أجلس على كرسى وأمد يدى خارج الشباك، سوف أربت على القمر وأشكره أنه لم يتخل عنى ولم يتوقف عن فرد نوره فوق طريقى. سوف أطمئن على أطفالى فكل منهم يمسك بشعاع خاصته، ما أكرم وجه القمر حين يبتسم فى وجه من أحب! غدا حين أجلس فى كرسى أمام الشباك، سوف تصلنى أخبار الحى من على حبال الغسيل، سوف أبتسم حين أسمع قصص الغرام وسوف أحزن على حزن من تركهم أحباؤهم. سوف أجلس فى ضوء القمر الفضى وأربت على شعر طفلة تمسك بدمية: لن يتركنا القمر فلا تخافى.