دماؤنا
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 10 يوليه 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
طبعا لم يكف العواجيز عن تشجيع الموت واستجلابه، والنتيجة حصاد جديد له من البنى آدمين من مختلف الأعمار ومختلف التوجهات.
فى مصر فى الأسبوع الماضى، من الأقصر إلى الإسكندرية، مرورا ببين السرايات والمنيل، وأمام دار الحرس الجمهورى، كان الناس يتساقطون من الأسطح ويتفحمون فى البيوت ويتهاوون أمام الأسوار الشائكة، ليظهروا كجثامين على أرضيات المشارح، نرى أهاليهم المكلومين فى الفيديوهات، يواجهون الكاميرا: أفواههم تتحرك، أصواتهم تحاول حكى ما حدث، وعيونهم مشدوهة، فيها العجب من الحدث، ومن حالهم، ومن قصور الكلمات.
أرجو أن يكون صحيحا ما سمعناه عن استعداد القوات المسلحة لأن تحقق جهة خارجية فيما حدث أمام دار الحرس الجمهورى، فقتل الجيش للناس مختلف عن قتل الناس لبعض. جملة غريبة ومؤلمة ــ بس حقيقية.
شهادة: ذهبت منتصف ليل الخميس ــ فى إطار مبادرة د. نجوان الأشول لـ«حماية الدم المصرى» ــ إلى اعتصام الإخوان أمام جامعة القاهرة. كنا أربعة: الدكتورة نجوان، وأنا واثنان من الشباب، ثم لحق بنا الأستاذ على حسن (أبومهاب)، وبعض من «أصحاب الدم والهم». أصحاب الاعتصام استقبلونا بكل ذوق، وبالترحيب، وبالرغبة فى الحكى والتواصل. لم تكن هناك أعداد كبيرة، ولم أر الكثير من المؤن، وكان المستشفى الميدانى تنقصه بعض الأساسيات. استشعرت، فى الحقيقة، نوعا من البؤس فى هذا الاعتصام لناس كانوا فى يوم ما يحملون المسئولية الأكبر فى إعاشة وتنظيم الميدان.
هم محاطون بمتاريسهم من ثلاث جهات (والجهة الرابعة هى سور الجامعة). الدخول والخروج من الاعتصام فى اتجاه الجيزة. أما فى اتجاه كوبرى الجامعة واتجاه بين السرايات، فبعد متاريس الإخوان بعدة أمتار يضع الجيش متاريسه ورجاله ــ تاركا أرضا محايدة بينه وبينهم. يقولون لى إن هذا التنظيم تم بالتشاور بينهم وبين الجيش لمنع الاحتكاكات. الجيش والأمن هنا لمنع تكرر الاشتباك بين أهل الاعتصام وأهل بين السرايات. بالأمس كانت هناك اشتباكات مات فيها ناس من الجانبين. الجو موحش. الناس هنا متجانسة أكثر بكثير من الناس فى التحرير: الأغلب جدا ــ هذه الليلة على الأقل ــ الرجال. أتصور أن الأغلب أيضا من الريف، وليسوا من المرتاحين ماديا. هناك منصة منصوبة، وعلى المنصة يقف رجل يخطب، وحين ينتهى يبدأ خطيب آخر بحيث لا يخلو الفضاء أبدا ولا للحظة (أثناء ساعات وجودى) من صوت الخطبة. البعض يقف ليسمع، والبعض يقوم بالخدمات، والبعض يُرينا ويحدثنا، والصوت طاغٍ. الناس مقهورة وتشعر بظلم وقهر شديد. رئيسهم الشرعى وحكومتهم الشرعية سقطت. جائز كان فيه أخطاء ــ جل من لا يخطئ ــ لكن ليس هذا هو الحل، يقولون.
«أنا واقف هنا عشان ربنا ــ مش عشان محمد مرسى؛ أنا واقف هنا عشان ربنا شايفنى».
الخطيب فى الميكروفون يتحدث عن سيدنا إبراهيم.
يقولون ان ١٨ بنى آدم قتلوا فى المكان الذى أقف فيه الآن.
«أنا حاسس بالقهر، مش عارف أقولك إزاى. بصى: أنا عندى بنت أربع سنين وولد سنتين، أنا عندى أموت ولاشوفهمش أهون م اللى انا حاسس بيه دلوقتى».
يقولون إن بدء الاشتباكات كانت إن فيه مسيرة آتية إليهم من ناهيا وصَفْت، وإن المسيرة بعد ما عدت كوبرى ثروت بدأ الضرب عليها من مبنى تحت الإنشاء يمتلكه بلطجى معروف، وإن الضرب والاشتباك بدأ بهجوم بلطجية يَسَّرَه وأتاحه الأمن. يقولون إن كان لهم تكاتك ومكن مركون، ولما نزل الجيش والأمن وتمترس أصبحت هذه الممتلكات وراء خطوطه، وحين ذهب أصحابها لاستردادها وجدوها محروقة. يقولون إن كان مرسى أخطأ «يتشال بالشرعية، ما ينفعش الناس دى كلها مايتعملّهاش حساب». يقولون إن هناك مسيحيين فى الاعتصام معهم، لكننا لا نلتقيهم. يقولون ــ كما فى الأيام السابقة ــ ان الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل قادم على رأس مسيرة مليونية.
مساء اليوم التالى، من شرفة بيت أختى، أرى الشيخ حازم يتم القبض عليه وإدخاله فى سيارة شرطة، ولم يكن قد ذهب لهم على الإطلاق. أسمع الزغاريد تنطلق من البيوت المجاورة. نتحرك فى الشوارع فنرى مجموعة من مؤيدى الرئيس مرسى تسير وتطلق النار فى الهواء عند كوبرى الجلاء، ونرى اشتباكات بضرب النار على كوبرى الجامعة. وعلى كوبرى عباس نشترى فل وياسمين من باعة يقلبون رزقهم بنشاط. وفى شارع جانبى فى وسط البلد يرفع رجل صوته عند مرورنا ليتساءل «والعالم الوسخة بتاعة التحرير مابنشوفهاش النهارده ليه؟» وفى التحرير نفسه الروح عالية والشباب يحكون عن مهاجمة الإخوان لهم على منزَل كوبرى ٦ أكتوبر، وكيف دافعوا عن الميدان وهزموهم، وكيف أتى الجيش والأمن بعد الهنا بساعتين. ونسمع القصة مكررة من كل مناطق الاشتباكات.
على الرئيس الجديد، وهو رجل قانون، أن يبدأ تحقيقات جادة وعاجلة فى أحداث الأسبوعين الماضيين، وعليه أيضا ــ كعربون شفافية ــ أن ينشر ويُفَعِّل تقرير لجنة تقصى الحقائق المركون فى مكتب النائب العام منذ شهور.
تويتة من الصديقة النبيلة الأستاذة غادة شهبندر: «من باب العلم بالشىء الجثامين داخلة خارجة من مشرحة زينهم بقالها أسبوعين.. القتلى من المعارضين والمؤيدين والدم واحد وكفاية بقى». كفاية بقى.