المكان هو من يختارنى
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 10 يوليه 2019 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
إن كنت أستطيع اليوم أن أزعم أن لى حرية اختيار أصدقائى بعد أن تخلصت من كثير من القيود الاجتماعية وغيرها التى كانت تربطنى بأشخاص ربما لم يعد يربطنى بهم الكثير، فإننى ألاحظ أننى لا أختار الأماكن، بل هى التى تختارنى.
***
تشدنى مدن دون غيرها، تجد أزقتها طريقها إلى قلبى، تسكننى زواياها فأحلم بها حين أبتعد عنها. أشم رائحة فرن يفرد صاحبه الخبز الطازج على فرشة خشبية فى الصباح، تدغدغ أنفى رائحة النعناع الأخضر ترش الفلاحة الماء عليه لتحفظه من حر صباح صيفى. أسمع الأذان من مساجد فى المدينة العتيقة فتختلط على المدن التى أحبها كلها. لا أعرف إن كنت فى حلب أو دمشق أو القدس الحاضرة الغائبة دوما حتى فى مخيلة من لم يزرها قط.
***
أنا لا أختار الأماكن إنما أدعها تختارنى فيسحبنى وجه عجوز من يدى إلى حارة بيوتها متلاصقة يشم سكان كل بيت رائحة بيوت جيرانهم ويتشاركون قصصهم وقهوتهم الصباحية. أنظر فى وجه العجوز فتختفى تجاعيده وتلمع عيناه الزرقاوين وهو يقول «تفضلى من هون يا خالة». أترانى أنا من طعنت فى السن بين الأزقة العتيقة دون أن أشعر بسنوات داست أحداثها على روحى وأتعبت قلبى؟
***
تمس بعض المدن قلبى فأترك جزءا منه معلقا على شباك بيت كمن يربط منديلا فيترك إشارة إلى حبيب سوف يمر من هنا. ألصق وجهى على الزجاج متلصصة على حياة من فى البيت، ربما إن رأونى دعونى للانضمام إليهم فى مساء شتوى اجتمعت فيه الأسرة حول المدفأة. لا أعرف أين أنا لكنى سوف أعود إلى هنا، فقد حفرت خطواتى طريقها فى ذاكرتى وسوف تعرف طريقها إلى هذه الحارة حين يشتد بى الحنين إلى رائحة الخبز والنعناع وعينى الختيار.
***
هناك سحر ترميه الأماكن على الأرواح، هناك نداء لا يسمعه سوى من يحاول المكان أن يشده ويبقيه، تماما كما كانت تفعل «النداهة»، تلك الشخصية الخرافية فى القصص المصرية القديمة التى كانت تخطف عقول الشباب وقلوبهم وترميهم فى قاع النيل فلا يخرجون منه. لا أرى تفسيرا منطقيا لدموع تنهمر منى فى كل مشوار إلى حارة بذاتها، سوى أنها، أى الحارة، تسحبنى إليها حين أكون منهكة من الحزن أو الغضب، تجرنى لأقف عند زاوية بعينها وأبكى على مرأى من الناس من حولى. تذكرنى الحارة بأن، الحزن قريب مهما بعد. حزن على مدن لم تعد موجودة إلا فى هذه الزاوية التى أختبئ فيها، وحزن على ناس رحلوا بعد أن أقنعونى أنهم باقون معى حتى آخر أيامى، حزن على أحلام تخيلت أننى أمسك ألوانها بيدى فاكتشفت أنها فقاعة تتلألأ فى الشمس لكنها تختفى حين ألمسها.
***
ترمى المدينة بشباكها على قلبى فيسكن. أفكر أن القلب عضلة، كلما أحب وحزن كلما كبر وزادت قدرته على التحمل، أليس ذلك ما نتعلمه فى العلوم عن قدرة العضلات على النمو والتحمل؟ وهل يضمر القلب من قلة الحب؟ هل يختفى الحنين إن ضمر القلب؟ هل تسكت المآذن القديمة إن توقفت عن زيارة الحارة؟ هل تنتقل العائلة إلى بيت فى حى حديث إن علمت أننى أتلصص عليها؟ هل تبقى الحارة على حالها إن نسيتها؟ أم أننى أخلدها حين أرسم تضاريسها فى قلبى حتى لو توقفت عن زيارتها؟
***
أفكر فى التغييرات التى تطرأ على أماكن أحبها وأتساءل إن كان بإمكانى إيقاف تأثير الزمن عليها.. وعلى. مراهقة تدق بابا صغيرا وتهرب، شابة تبحث عن عينين زرقاوين بعد حفلة موسيقية فى قصر قديم أصبح منذ سنوات دارا للثقافة. امرأة ناضجة تعود إلى أماكن تركت فيها قصاصات ورق عليها أجزاء من قصة حب مضت. أعيد جمع القصاصات علنى أعيد جمع القصة. تنقص بعض الأجزاء فأعيد تركيبها من ذاكرتى على وقع خطى من يمشون فى الحارة ذلك اليوم تحت مطر الخريف.
***
أنا فعلا تختارنى الأماكن ولا أختارها، تقرر هى أننى أنتمى إليها وتبدأ معى قصة حب رغم زياراتى المتباعدة. هى كحبيب رضى بما تعطيه له حبيبته دون أن يطلب المزيد. أغيب فتنتظرنى المدينة، لا تعاتبنى حين أعود بل أعاتبها أنها تغيرت. تقول إنها كما هى منذ آخر مرة جلست فى تلك الزاوية. وأنا أصدقها، لقد اختارتنى فعدت إليها لاهثة أبحث عن بعض من نفسى فى زواياها. أنا رائحة ليل غطى أحجار المنازل البيضاء، أنا عرق شاب انتهى للتو من عمله فى الفرن وجلس يدخن سيجارة قبل أن يعود إلى البيت. أنا نغمة غنتها طفلة تعتقد أنها ستغنى أمام الجمهور حين تكبر.
***
لا أختار الأماكن إنما تقرر هى أننى ابنتها. أعود إليها لأرمى بنفسى فى أحضان جدرانها القديمة. أعتذر عن الغياب وأمسح عنها الغبار. أنا هنا دون أقنعة أبتسم للغريب وأبكى قصصا مضت ولم أنتبه وقتها أنها مضت. الاستسلام للمكان أظن أنه من أصدق لحظات الحب: أنا الآن من هنا، المكان هو من يختارنى.