وداعا هونج كونج كما عرفتها
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 10 يوليه 2019 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
مشيت فى معظم شوارعها واستخدمت أغلب مواصلاتها العامة وسكنت فى بعض فنادقها وأكلت وشربت فى كثير من مطاعمها ومقاهيها. كانت هونج كونج على طريقى من نيو دلهى إلى بكين. نصحونى فى نيو دلهى قبل السفر أن أرتب رحلتى بشكل يسمح بأن أقضى فى هونج كونج أطول مدة تسمح بها تعليمات الانتقال من بعثة دبلوماسية إلى أخرى. كانت التعليمات فى ذلك الحين مرنة. أذكر بكل الامتنان كيف كانت الدولة المصرية كريمة فى التعامل مع أعضاء سلكها الدبلوماسى. كنا أحرارا فى اختيار وسيلة السفر من البدائل المتوفرة. إن شئنا ركوب البحر فلتكن بواخر الشركات الإيطالية الأغلى والأفخر. وإن اخترنا الطيران فلتكن كبرى الشركات الأمريكية والبريطانية وفى مقاعد الدرجة الأولى.
فى ذلك الوقت لم تكن لبكين عاصمة الصين الشعبية سمعة طيبة بين الدبلوماسيين عموما. قضيت أياما أتسوق فى السفارات والقنصليات الأوروبية فى الهند معلومات وتجارب عن تفاصيل معيشة الأجانب المعتمدين فى الصين. اكتشفت أن الحصيلة مهما طال التسوق لن تكون ثرية والمفيد منها ضئيل. لا أحد سألت إلا واكتسى وجهه أو وجهها بالأسى والحزن. الأسى لأنى منقول من موقع شاق، وهو الهند، إلى موقع لا يقل صعوبة ومشقة بل لعله كان فى ذلك الحين الموقع الأشد مشقة بعد تيرانا عاصمة ألبانيا ولاباز عاصمة بوليفيا. قليلون بين من قابلت، وكلهم من الدول الإسكندنافية اعترفوا بأنهم يحلمون بزيارة بكين ولكن لا يتمنون العمل فيها، بكين هذه العاصمة الغامضة المثيرة للجدل وحاملة أسرار إحدى أهم الحضارات العظمى. ولكنها العاصمة التى لن يجد فيها الدبلوماسى سكنا إلا بصعوبة بالغة ولن يجد دائما ما يحن إليه هو وعائلته من خضراوات وفواكه ولحوم. لا ملابس جاهزة للبيع أو بالتفصيل والشتاء زمهرير والصيف خانق. الشىء الوحيد الموجود بوفرة وبسعر زهيد هو الكتاب الأحمر. النصيحة من الكل أن أتوقف فى هونج كونج لمدة كافية لشراء كل ما يعن على البال. كانوا مخلصين فى نصيحتهم فمن قابلت من التجار فى هونج كونج أكدوا جميعا حاجتى إلى فتح حساب يضمن لى استلام شحنة شهرية من ضرورات الحياة فى بكين، المدينة التعيسة. لم تغب عن بالى لشهور نظرات الإشفاق التى غمرنى بها التجار الصينيون فى هونج كونج.
وصلت بكين لأعرف فورا ومنذ اللحظة الأولى أن الناصحين فى دلهى والتجار فى هونج كونج كانوا صادقين، عرفت فى الوقت ذاته أن بكين نفسها كانت صادقة. لم تتجمل لاستقبالى، وبقيت صادقة حتى يوم رحيلى، لم تتجمل يوما واحدا حتى يوم عدت إليها باحثا وصحفيا بعد حوالى خمسة عشر عاما.
***
قضيت ساعات عديدة خلال الأسبوع الماضى أمام شاشة التليفزيون أتابع بكل الشغف المخزون المظاهرات الشعبية وهى تجول شوارع فى هونج كونج أذكر بعضها جيدا. إحدى هذه المظاهرات استحقت بالفعل صفة المليونية. استمدت هذه الصفة فى تقديرى أهميتها الفائقة من أنها مليونية فى إقليم تعداد سكانه لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، بمعنى أن فردا من كل سبعة خرج ليحتج. رأيت أناسا من جميع الأعمار والشباب النسبة الأكبر ومن جميع الأعراق وإن كان المنحدرون من صينيين هم الأكثر عددا. لم تكن المظاهرة الأولى التى يخرج فيها أعداد ضخمة فقد شهدت فى السنوات الأخيرة على الشاشة احتجاجات شعبية فى المدينة نفسها أخذت أشكالا مختلفة. احتج مرات عديدة أهل الإقليم، وبالمناسبة يتكون هذا الإقليم من جزيرة هونج كونج وشبه جزيرة كولون بالإضافة إلى ما يعرف بالأقاليم الجديدة، احتجوا ويحتجون فى كل مرة جربت الحكومة المركزية فى بكين إخضاع أهل الإقليم المدلل لقوانين الدولة الصينية. كان شرط المملكة المتحدة المنصوص عليه فى الاتفاق المعقود مع الرئيس دينج تشاو بينج فى عام 1979 أن تحتفظ هونج كونج بوضع خاص فى خريطة الوطن الصينى تحت عنوان دولة واحدة ونظامان. وبالفعل سلمت لندن مفاتيح الإدارة المحلية إلى سياسيين منتخبين محليا ورحل آخر حاكم للجزيرة بعد 156 سنة من حكم الاستعمار الإنجليزى.
وافقت الصين على هذا الشرط لأسباب مفهومة أهمها من وجهة نظرى سببان. الأول يعكس حاجة القيادة الجديدة فى الصين لعلاقات طيبة بالعالم الخارجى وبخاصة الغرب فلم تشأ تصعيد نزاعها مع إنجلترا على مستقبل الجزيرة، وهى تعلم أن المدة طالت أو قصرت ففى نهايتها تعود هونج كونج إلى حضن الأم الطبيعية. السبب الثانى، وهو الأهم، يتعلق بعنصر الضرورة. بكين كانت بالفعل وإلى درجة مدهشة تعيش على ما يصل إليها من هونج كونج أو عن طريقها من معلومات وواردات ومدخرات المغتربين وخبرات التصدير والسمعة المصرفية. إذ إنه فور خروج جيش الاحتلال اليابانى فى نهاية الحرب العالمية الثانية انطلقت هونج كونج صعودا لتحتل مرتبة متميزة بين المراكز المالية والاقتصادية فى العالم الرأسمالى، العالم الذى كانت القيادة الصينية تحت رئاسة الرئيس دينج تستعد للاندماج فيه.
***
لا أحد عاقلا فى إقليم هونج كونج يشكك فى مبدأ تبعيته للصين، كثيرون، على كل حال اختاروا أن يرحلوا مع رحيل الإنجليز أو يعيشوا متأففين ومعتقدين أنهم يستحقون هوية مستقلة. ظنوا خطأ أن المواثيق والمعاهدات الدولية ضمان كافٍ للاحتفاظ بتميزهم وتفوقهم وسمو مكانتهم فى الأسواق المالية العالمية. عاشوا، والحق يقال وكنت شاهدا، فى ظل بحبوحة حريات وحقوق لم تتح لشعب فى شرق وجنوب شرق آسيا. حتى اليابانيون كانوا يحسدون أهل هونج كونج والكوريون جميعا كانوا أول الحاسدين. أظن أن الغرب أراد أن تظل هونج كونج نموذجا حيا للتطبيق الليبرالى أكثر أهمية وجاذبية من برلين الغربية فى عصر الحرب الباردة. كانت هونج كونج، وبقيت لسنوات، تلمع فى سماوات آسيا. اثنان من زملاء المرحلة الدبلوماسية فى حياتى شاركانى هذا الرأى، كل وقت كان يترأس قنصلية مصر هناك، هما السفيران الموقران والقريبان إلى قلبى إيهاب وهبة وفاروق حلمى. تبادلت معهما الرسائل حيثما كنت فى أمريكا اللاتينية ثم من خارج المواقع الدبلوماسية، كنت كمن يريد الاطمئنان على قيمة وديعة تركها فى آسيا، أو على بريق جوهرة يخشى عليه الانطفاء. كنت مع الأيام واثقا أن الصين الأم مهما صعدت وبأى سرعة نهضت لن تنفعل يوما فتمزق معاهدتها مع المملكة المتحدة حول مستقبل هونج كونج. كنت أرى هونج كونج جوهرة يعتز بوجودها الفريد كل اقتصادات قارة آسيا. لا مصلحة لأحد فى أن يرى لمعان هذه الجوهرة يخبو. حتى بكين تمنت لو بقيت هونج كونج شعلة نشاط وإبداع وإن تمنت فى الوقت نفسه أن تمتنع عن أن تكون مصدر إلهام سياسى لشعوب المنطقة.
***
كانت هونج كونج ضرورة لبكين كما كانت لغيرها. حاولت بكين بإرادة حديدية ألا يصل غضب أو احتجاجات شعب الإقليم إلى نقطة اللاعودة فى العلاقة بين إرادة شعب هونج كونج من ناحية وإرادة قيادة الحزب الشيوعى الصينى فى بكين. الآن، وبعد المظاهرات الأخيرة التى وقعت فى بكين بدأت وربما للمرة الأولى أتوقع للعلاقة بين بكين وهونج كونج أن تتغير. تغيرت قناعتى. لن تحظى هونج كونج بتدليل خاص من بكين بعد الآن.
تغيرت قناعتى وحجتى أن هونج كونج لم تعد الجوهرة الوحيدة بين مدن وموانئ الصين التى تدر ذهبا. لآلئ وألماسات عديدة تبرق فى شتى أنحاء الصين وبخاصة فى الشرق والجنوب الشرقى حيث توجد هونج كونج. الصين، وأقصد الحزب الشيوعى الصينى، قد لا يتمنى أن تأتى الساعة التى يجد نفسه مجبرا على تجاهل هونج كونج كلية، إلا إذا تأكد من أنها بالفعل لا تبرق بأكثر من أقاليم أخرى فى الصين، وهى بالفعل لم تعد الأولى بامتياز، وإذا تأكد من أن احتجاجاتها السياسية تهز سمعته ومكانته داخل الصين وبين مختلف القوى المناهضة الليبرالية السياسية والصاعدة فى العالم.