صراع الإنكار والاعتراف بظاهرة التحرش
كريم ملاك
آخر تحديث:
الجمعة 10 يوليه 2020 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
فى الأوقات الصعبة، وفى الأزمات الطاحنة، يطفو للسطح ما هو بقاع المجتمع ويظهر بأسوأ صوره وبكل ما يملكه من قبح وجهل وعنف، خصيصا إذا كان هذا التغيير جاء بعد ثورة دامت ثمانية عشر يوما شهدت أعمال عنف مستمرة، وانفلاتا أمنيا وحالة من الذعر المجتمعى. فمنذ عام ٢٠١١ وحالة مصر، إحقاقا للحق، متقلبة وغير مستقرة. فكل ما هو كان مستقرا عليه تم تسييسه أو تم الزج به حتى أصبحت الحقيقة ذات نفسها محل جدال. حصل للمجتمع المصرى حالة فوران وهيجان ظهرت فيه موجات عنف متتالية، عنف أسرى وسط تصاعد الاختلافات العائلية قرب الانتخابات، عنف مجتمعى لعدم قدرتها التعامل مع الاختلاف السياسى خصيصا فى ظل التسعة أعوام السابقين عندما دخلت مصر رحلة البحث عن هويتها، فما أدراك بحالات العنف ضد المرأة والعنف الجنسى، كل ما هو ثابت أصبح محل نقاش: قضية ارتداء الحجاب أو خلعه، ولباس المرأة بين الخلاعة والحشمة، المساحة العامة وحدودها، والحرية الشخصية وتقبل الآخر وصولا لقضية التحرش.
لكنى أتصور أن كل ما سبق من سطور هو، للأسف، عبارة عن جمل وعناوين لواقع مزيف. أصبح المجتمع المصرى يستخدم هذه العبر والجمل والعناوين كشماعة لتعليق مشاكله وللهروب من مواجهة مشكلة التحرش. فالبعض يقول إن هذه ظاهرة جديدة علينا، متذرعا أنها ظاهرة ولدت فقط بعد «أحداث ٢٥ يناير» وما تلاها من عنف. هذا ما قيل بعد أن سادت على المواقع الاجتماعية حالة من الجدل حين أفصحت أكثر من شابة عن قيام شاب بارتكابه عدة وقائع ابتزاز وتحرش واغتصاب وعنف جنسى وجسدى. وللأسف، بدلا من التصدى للواقعة أو فتح تحقيق نزيه، قامت عدة جهات كانت تتعامل مع الشاب بإصدار بيانات، أو كل كليشيهات، تتساءل لماذا تم الزج بهذه القضية فى هذا الوقت؟ متحاملة على الضحايا لسكوتهم، متسائلةً لماذا الشاكيات لم يتقدمن ببلاغ رسمى حتى الآن؟
تتسم حالات الإنكار بتحميل الضحايا ليس فقط اللوم، بل تحميلهن أيضا مسئولية الآخرين المقصرين. ففى هذه الحالة ترجع المسئولية فى المقام الأول للمجتمع كاملا ككل لخلقه أعذارا واهية لتفنيد أى تهمة تشير لمحاولة تحرش أو عنف جسدى ممنهج ــ خصيصا إذا كان الشاب محل اتهام «ابن ناس». فى المقابل، ينصب المجتمع نفسه كله كقاضٍ متسائلا: «أين الأدلة؟ ما هى خلفية الشاب؟ لكنه من عائلة معروفة وجيدة السمعة؟ لكنى أعرفه أو أعرف فلانا من أسرته كيف يفعل هذا؟ هل ألحت عليه الضحية برغبة خبيثة؟ هل كان فى كامل قواه العقلية؟ هل يمر بأزمة نفسية؟ هل هو مريض؟ ماذا كانت ترتدى الشابة الشاكية؟ لكنها تسهر كثيرا، ولبسها غريب، وأسلوبها مختلف، لكنها لا تحترم العادات الأسرية المصرية». وبهذا يتغير الخطاب فيتحدث عن حالات وواقعات فردية مختلفة بدلا من التصدى لظاهرةٍ مجتمعيةٍ.
هذا ما حدث مع واقعة شاب «أون ذا رن» حين قامت الشابة الضحية بتسجيل تحرش شاب لها فى محطة بنزين «أون ذا رن» بالصوت والصورة لكنها اتُهِمَت بأنها تسعى للشهرة لإثارة حالة من «البلبلة» داخل المجتمع المصرى وأن الموضوع «خد حجمه أكثر من اللازم». الحقيقة أن ما طالته الشابة من ردود أفعال مشككة فيها جعلت الرسالة الضمنية كل الوضوح: كل من يسعى لكشف قباحة المجتمع فى مصر، ومواجهة هذه الظاهرة، يتم التشكيك فى روايته كأنه مريض ويتكلم عن واقع آخر بدلا من السكوت وتقبل الموضوع، «إيه يعنى قلة أدب وعدت؟ ربنا أمرنا بالستر».
للأسف هناك أفراد فى عائلتنا، نساء حتى فى بعض الأحيان، جزء من هذه المنظومة، يرفضن الاعتراف بمسألة التحرش أو العنف الجنسى كظاهرة متفشية. وأتصور أن هذا هو المرض الحقيقى. أصبح الحال اليوم فى مصر أن هناك جهدا كبيرا يبذل للخروج من المشاكل، وتبريرها، وتفنيد أسبابها، ومعالجة آثارها السلبية، بدلا من المواجهة والمصارحة وحل هذه المشاكل. فبدلا من المواجهة والمصارحة أن التحرش قضية اجتماعية، هناك من يلوم حال البلد، أو ارتفاع معدل البطالة والفقر والجهل، تغيير «سلوك الناس وأخلاقها»، «أصل ده جيل غريب مش زى أيام زمان». وكأن سمعة الرجل فى المجتمع هى سمعة البلد، ففى هذا التصور تصبح كل شابة تشكو من التحرش جزءا من مؤامرة ممنهجة تستهدف سمعة البلد. كل هذه الأعذار الواهية تنكر تفشى ظاهرة التحرش بين رجال الأعمال ومديرى شركات دولية والموظفين المرموقين فى القطاع الحكومى، منكرين مثلا ما يتعرضن له مضيفات الطائرات والسكرتيرات وموظفات الـ«كول سنتر».
أتصور أن الأفضل لنا من تدوير كليشيهات مثل «اعتبرها أختك»، و«الرجولة هى حماية البنت» أن نعترف ونتصالح مع الأمر الواقع بدلا من استخدام شماعات كثيرة وأعذار، فإن كان هناك سبب لازدياد معدل التحرش أتصور أنه نتيجة التراخى والتستر على الأمر والتعامل معه على أنه «فضيحة» تدعو للتستر بدلا من تطبيق عقوبة رادعة. هل نحن بهذه القباحة؟ لست أتصور، هل أصبحنا بهذه القباحة منذ ٢٠١١؟ أيضا لست أتصور ذلك لكننا كجيل اختار أن يقف عن التستر وتقبل الواقع المزرى وقررنا أن نتحدث عما هو حولنا. فمَن مِنا لا يعلم بحادثة وزير الداخلية السابق فى عهد عبدالناصر شعراوى جمعة مع شويكار؟ إذن الأمر ليس بجديد وليس له علاقة «بحال البلد». لكنى أتصور أننا سنصبح بهذه القباحة، وأسوأ حتى، إذا لم يحدث هناك تغيير جذرى ولم يبذل جهد محترم للاعتراف بمشاكلنا كلها فى المجتمع وما فيها من مشكلة التحرش والاعتداء الجنسى على النساء.