لعل من المسلم به أن إنجاز معدل سنوى مرتفع للنمو الاقتصادى (الزيادة السنوية فى الناتج المحلى)، يعتبر المؤشر الرئيسى على تحسن أداء أى اقتصاد يعانى من اختلالات هيكلية مزمنة. ومع ذلك، لا يجوز أن نقع أسرى لـ «خداع الحجم». ذلك لأن نوعية النمو الاقتصادى المحقق، وتركزه فى قطاعات اقتصادية مرتفعة القيمة المضافة، تلعب ــ إلى جانب الحجم ــ دورا أساسيا فى علاج اختلالات الاقتصاد، وفى توليد قدرات ذاتية لاستمرار تحقق هذا النمو فى المستقبل، وبما يجعله يُفضى إلى التنمية الاقتصادية المستدامة.
وإذا كان القطاع العقارى المصرى ــ كأحد القطاعات الاقتصادية الرئيسية ــ يولد جانبا متزايدا من النمو الاقتصادى المصرى، فإن ذلك يعتبر دافعا كافيا لندرس ظاهرة تركز النمو فيه، ولنحدد أهم أسبابها ونتائجها المتوقعة على مستقبل التنمية الاقتصادية فى مصر، ولنحاول طرح رؤية تنموية وطنية تجابه ذلك التحيز للقطاع العقارى على حساب باقى القطاعات ذات الأولوية التنموية.
عن حالة التركز الحالى فى القطاع العقارى المصرى، تُظهر بيانات وزارة التخطيط أن جملة الاستخدامات الاستثمارية العامة والخاصة، والمنصرفة لقطاع العقارات (أنشطة الملكية العقارية، وأنشطة التشييد والبناء، وخدمات الأعمال) خلال العامين الماليين 2014/2015 و 2015/2016، قد زادت بالأسعار الجارية من 42 مليار جنيه لتصبح 51 مليار جنيه، وبمعدل نمو سنوى 20.4% تقريبا. وإذا ما نسبنا تلك الأرقام لجملة الاستخدامات الاستثمارية فى الاقتصاد المصرى، فإنها توضح أن هذا القطاع يلتهم وحده 13% من جملة الاستثمارات المنفذة، للدرجة التى جعلته يحتل المنزلة الثانية بعد قطاعى النفط والغاز.
وبسبب زيادة امتصاص هذا القطاع للاستثمارات المنفذة، زادت مساهمته فى توليد الناتج المحلى بالأسعار الجارية خلال السنتين الماليتين الأخيرتين من 356 مليار جنيه إلى 425 مليار جنيه، وبمعدل نمو سنوى 19% تقريبا. وكانت تلك الزيادة السبب المباشر لأن يصبح القطاع العقارى هو المولد الأول للناتج المحلى الإجمالى بنسبة تقريبية 16% من جملة الناتج المصرى، متفوقا بذلك على قطاع النفط والغاز (لاحظ أن الأخير يتفوق عليه فقط فى امتصاص الاستثمارات المنفذة).
على أننا نلاحظ كذلك، ونحن نحلل بيانات الناتج العقارى، أن جانبا مهما من الطفرة التى يشهدها قطاع العقارات المصرى، تعزو إلى النمو السعرى فى هذا الناتج العقارى، فيما يعرف «الفقاعة العقارية». وبمعنى أكثر تحديدا، فإن قيمة الناتج العقارى الذى تظهره بيانات وزارة التخطيط، تعكس ارتفاعا سعريا فى الأنشطة العقارية المنفذة مثلما تعكس نموا فى الإضافات الحقيقية المنتجة فى هذا القطاع.
****
نحن إذن إزاء حالة تركز واضحة فى مكونات النمو الاقتصادى المصرى لصالح القطاع العقارى، سواء كان تركزا فى امتصاص الاستثمار أو فى توليد الناتج. فما هى أهم الأسباب المسئولة عن حدوث هذا التركز؟
• إن ارتفاع معدل النمو السكانى، وما يتمخض عنه من زيادة عدد الهائمين على وجوههم بحثا عن مسكن، هو المسئول الأول عن تركز الاستثمار والنمو الاقتصادى فى قطاع العقارات. ويزيد من هذه الحالة، وضعية «التركز الحضرى» فى أقاليم محدودة، وما تُحدثه من هجرة داخلية لتلك الأقاليم.
• وفى ضوء انخفاض تكاليف الإنتاج الإجمالية فى القطاع العقارى، نتيجة لحاجته للعمالة الرخيصة وغير الماهرة، ولقلة حاجته للتكنولوجيا المتقدمة، ولانخفاض تكاليف التخزين (التسقيع)، ترتفع معدلات الربحية فيه، وتتحفز على أثر ذلك تيارات الاستثمار المتدفقة لهذا القطاع المربح، وتزيد، من ثم، الوحدات المنتجة فى سوق العقارات، لتنضم إلى شقيقاتها «المسقعة».
• ويزيد الدعم التمويلى الذى تمنحه البنوك والمؤسسات المالية ضمن مبادرات «التمويل العقارى» من تركز النمو فى قطاع العقارات، كنتيجة لزيادة الطلب ــ نسبيا ــ فى سوق العقارات المترتب على ذلك الدعم.
• كما أن الدور الحكومى ليس ببعيد عن مسببات تركز النمو فى قطاع العقارات. فآليات التخصيص الحكومية للأراضى الجديدة، وخصوصا للأغراض السكنية، وآليات التسعير التى تتبعها، والدور الرقابى المتواضع الذى تمارسه فى سوق العقارات، تشكل فى مجموعها محفزات لنمو «الفقاعة العقارية»، وبما يزيد من حصة هذا القطاع فى الناتج.
****
السؤال المنطقى الذى يمكن أن يقفز لذهن القارئ الآن هو: ما هى المشكلة من حدوث هذا النمو فى قطاع العقارات؟ أو ليس هذا النمو العقارى أحد مكونات النمو الاقتصادى الإجمالى الذى نجتهد لزيادته دائما؟!
صحيح، إن كل نمو يحدث فى الناتج العقارى سيُحسب ضمن النمو الاقتصادى الإجمالى، ولكن عليك أن تسأل نفسك قارئى العزيز هل إنشاء «عمارة» كإنشاء «مصنع»؟!
إن الإجابة على السؤال السابق توضح أن المعضلة الأساسية التى تواجهنا، هى أن تركز النمو فى قطاع العقارات، دون القطاع الصناعى، يشكل عبئا على التنمية الاقتصادية المستدامة، لأنه يمتص الفائض الاقتصادى الضرورى للتنمية الصناعية، كنتيجة لعدة آثار:
• أولها: أثر المضاعف. ذلك لأن الاستثمار فى القطاع العقارى ــ سواء كان مصدره محليا أو أجنبيا ــ يُقيد من مضاعف التوظف والنمو الذى يمكن أن يحدث إذا وُجه الاستثمار للقطاعات غير العقارية. فالاستثمار العقارى يُشغل عناصر الإنتاج (وخصوصا عنصر العمل) لمرة واحدة فقط، أثناء عملية الإنشاء.
• ثانيها: أثر التشابكات. فإذا كان قطاع العقارات مرتفع التشابكات الخلفية، فإنه فى نفس الوقت، منخفض التشابكات الأمامية. فهو يجذب النمو الاقتصادى ولا يدفعه، يحدثه ولا يديمه. وتفاقم تلك السمة من الاختلال التنموى بين القطاع العقارى من ناحية، والقطاعات الزراعية والصناعية والخدمية صاحبة التشابكات الأمامية والخلفية المرتفعة من ناحية أخرى.
• ثالثها: الأثر التصديرى. فلأن أغلب مكونات الناتج العقارى (الوحدات العقارية) من النوعية غير القابلة للإتجار دوليا، فإن أثره يكاد يكون معدوما على زيادة الطاقة التصديرية للاقتصاد المصرى (باستثناء المنشآت السياحية). وإذا أخذنا فى الاعتبار ارتفاع المكون الأجنبى فى هذا الناتج (وخصوصا آلات ومعدات وتجهيزات البناء)، لعلمنا مدى الأثر السلبى لتركز النمو فيه على سوق الصرف الأجنبى.
• رابعها: الأثر التضخمى. فالموجات المتتالية من الركود التضخمى التى واكبت قرار «تعويم» الجنيه، أو تلك التى سبقته، كانت نتيجة مباشرة لتركز جزء مهم من النمو فى ذلك القطاع. فإذا كان تفاقم ظاهرة «الاكتناز العقارى» هى نتيجة منطقية لظاهرة «الهروب للعقارات»، والتى حدثت بسبب تآكل القوة الشرائية للجنيه، فإن هذا الهروب أضحى سببا رئيسا للتضخم الركودى فى الأنشطة العقارية لاحقا.
• خامسها: أثر الضرائب. فالنمو فى الناتج العقارى لا يقابله نمو مماثل فى الإيرادات العامة للدولة، وخصوصا الإيرادات الضريبية. وغنى عن البيان أن المشكلات المتعددة التى تواجه التطبيق السليم للضرائب العقارية بوضعها القانونى الراهن، هى التى تقلل من الأثر الايجابى للنمو العقارى على الإيرادات الضريبية.
ومن المؤكد أن الأسباب السابقة مجتمعة هى التى تجعل تركز النمو الاقتصادى فى قطاع العقارات يؤثر سلبيا على استدامة النمو الاقتصادى المصرى، ويقلل من قدرته على تحقيق معدلات مضطردة من هذا النمو فى المستقبل.
***
إننا إذا عقدنا مقارنة بين الآثار التنموية للتوسع الاستثمارى فى قطاع الصناعة التحويلية مثلا، وتلك التى يولدها قطاع العقارات، لعلمنا مدى العائد التنموى المضحى به من كل تركز يحدث للنمو فى القطاع العقارى. وفى مواجهة هذا التحدى التنموى، لا يجوز أن نغفل الدرس المهم الذى تقدمه لنا كل التجارب الدولية الناجحة. هذا الدرس كان عنوانه الدائم تحيز النمو لصالح قطاع الصناعة التحويلية. فكيف لنا أن نعى هذا الدرس المهم؟
بإيجاز شديد، يتعين على السياسة الاقتصادية إعادة ترتيب هيكل الحوافز الاستثمارية لصالح القطاع الصناعى على حساب القطاع العقارى (وخصوصا الفاخر منه). ولن يحدث ذلك إلا بتفعيل الضرائب العقارية التصاعدية، التى تراعى الأبعاد الاجتماعية، لدورها المحورى فى مكافحة استشراء ظاهرة «التسقيع» العقارى. كما يمكن لسلاح التمييز الضريبى أن يساهم كذلك فى التحيز لصالح المكون المحلى فى القطاع العقارى المصرى.
وبالإضافة لما سبق، فإن الضرورة الملحة لإعادة النظر فى آليات التخصيص والتسعير والرقابة الحكومية فى سوق العقارات، والتوسع الأفقى المضطرد فى البنية الأساسية (يمكن تمويله من حصيلة الضرائب العقارية)، كلها إجراءات ضرورية وعاجلة لتصغير «الفقاعة» العقارية، والتى توشك على الانفجار!