حصاد السنين من بعد أوسلو إلى تقرير جولدستون
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 10 أكتوبر 2009 - 9:47 ص
بتوقيت القاهرة
فارق ضخم بين الأمس واليوم. أمس حين وطئت قدما ياسر عرفات أرض غزة فى يوليو 1994 بعد التوصل إلى اتفاق أوسلو فى 20 أغسطس 1993، وبين ما آلت إليه الأوضاع فى الضفة الغربية وغزة اليوم، أى بعد مرور ستة عشر عاما على التوقيع على الاتفاق المذكور بالأحرف الأولى.
دخل الرئيس الراحل ياسر عرفات، حينها أرض فلسطين دخول الأبطال، تحف به آمال الفلسطينيين فى غد مشرق يمارسون فيه سيادتهم على أرضهم، ويسترجعون حقهم المسلوب. وتمكن الفلسطينيون بالفعل خلال عامين من بناء مؤسسات سلطتهم الوطنية، وأصبحت رام الله مقصدا لكل زائر أجنبى، وتقاطرت الوعود والمساعدات على السلطة. ويبدو أن الحكومات الإسرائيلية قد فطنت إلى أن القطار قد جاوز سرعته المقررة، فأخلّت بالوعود التى قطعتها على نفسها، وتحللت من الجداول الزمنية التى التزمت بها. فاستمرت التوغلات والاغتيالات والاستيلاء على الأراضى، وتوسعت المستوطنات أفقيا ورأسيا، وجرى تهويد مبرمج للقدس الشرقية، وتواصلت أعمال التنقيب هناك، واستباح المتطرفون الإسرائيليون باحة المسجد الأقصى فقاموا باقتحامها متى وفرت لهم الشرطة الإسرائيلية الحماية. ووصل عدد المستوطنين الآن فى الضفة الغربية إلى280 ألف مستوطن يضاف إلى هذا العدد 190 ألفا فى القدس الشرقية أى بمجموع يصل إلى ما يقرب من نصف مليون مستوطن أو قل فى الحقيقة «مستعمر».. ولا يجب أن نغفل الآلاف من هؤلاء الذين أقاموا ما يطلق عليه بالبؤر الاستيطانية غير المرخصة.
وأحاطت إسرائيل الكتل الاستيطانية بشبكات الطرق وأقامت جدارا عازلا بطول الأرض المحتلة تأمل أن تراه فى يوم من الأيام وقد تحول إلى حدود أبدية. لم تلق إسرائيل بالا لرأى محكمة العدل الدولية الذى اعتبرت بناء الجدار عملا غير شرعى وانتهاكا للقانون الدولى. ولم تكتف إسرائيل بذلك بل أقامت المئات من نقاط التفتيش فى الضفة التى جعلت من تنقل الفلسطينيين هناك مأساة إنسانية فى حد ذاتها، ناهيك عن الإغلاق التام للضفة فى مناسبة وغير مناسبة. أما قطاع غزة فقد فرضت عليه من سنوات حصارا محكما وجعلت من إغلاق المعابر المؤدية إليه تسليتها المفضلة.
وبعد أن رحلت عن القطاع عام 2005 إذ بها تقوم بغزوه مرة أخرى لتزهق أرواح النساء والأطفال وترتكب ما شاء لها من جرائم الحرب ومن الجرائم ضد الإنسانية كما دمغتها بذلك الأمم المتحدة نفسها. وجاء تقرير جولدستون الذى كلفه مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بالتحقيق فى الجرائم التى ارتكبت فى حرب غزة الأخيرة، ليفضح الممارسات الإسرائيلية وهجماتها المتعمدة ضد المدنيين وضد مقومات حياتهم، والتدمير الواسع للممتلكات بشكل وحشى، والآثار الإنسانية والاقتصادية الناجمة عن الحصار.. مشيرا إلى أن مسئولية إسرائيل يمكن أن تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويوصى التقرير فى حالة تقاعس إسرائيل عن اتخاذ إجراءات التحقيق اللازمة وفقا للمعايير الدولية المتعلقة بانتهاك قانون الحرب؛ فإنه من الضرورى أن يحال الأمر إلى مجلس الأمن، كى يقوم بدوره بإحالة القضية إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى.
أما الحكومة اليمينية الحالية فماضية فى توسعها الاستيطانى غير مكترثة بالصرخات الأمريكية. وترفض أن تكون القدس من بين موضوعات التفاوض المقبل. ولا تقبل عودة اللاجئين إلى أراضيهم وديارهم فى إسرائيل. ولا مانع لديها من دولة فلسطين مسخا بلا سلاح يحميها وبلا سيادة على أجوائها أو مياهها. وفوق كل ذلك يطالب نتنياهو باعتراف الفلسطينيين والعرب بإسرائيل كدولة يهودية.
هكذا تبدو الصورة الآن. ولكن هل جاء حصاد أوسلو حشفا وشوكا كله، أم كانت له بعض الإيجابيات؟ أزعم أن الاتفاق وما تبعه من اتفاقيات أخرى قد تحقق من ورائها عدة تطورات مهمة:
أولا: أثبت الشعب الفلسطينى قدرة فائقة على الصمود أمام آلة استعمارية شديدة البطش.
ثانيا: وأثبت هذا الشعب أيضا أنه فى غير حاجة إلى دروس تلقى عليه فى الديمقراطية، فقد مارسها بالفعل فى بناء مؤسساته بكل شفافية ونزاهة.
ثالثا: لم يعد هناك من يجادل فى حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة، وأصبح هذا المبدأ من أدبيات القضية الفلسطينية ومن مرجعيات السلام التى نص عليها صراحة قرارا مجلس الأمن 1850 لعام 2008، و1860 لعام 2009.
رابعا: توصلت المجموعة الرباعية (الاتحاد الأوروبى ـ روسيا ـ الولايات المتحدة ـ الأمم المتحدة) بنهاية 2002 إلى ما عرف بخريطة الطريق التى تتضمن مراحل وتوقيتات محددة تؤدى فى النهاية إلى إقامة الدولة الفلسطينية. وقد ضمنها مجلس الأمن فى قراره 1850وطالب الأطراف بالوفاء بالالتزامات الواردة فيها.
خامسا: اضطرت حكومة شارون عام 2005 ولأسباب عدة إلى سحب قواتها العسكرية بالكامل من قطاع غزة، وقامت بإجلاء المستوطنات هناك من المستوطنين. وكان يمكن أن نتخذ من ذلك سابقة ومثلا يحتذى بتطبيقه على باقى الأراضى المحتلة، لولا ما جرى بعد ذلك من اقتتال بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس وتحكم الأخيرة فى مقدرات القطاع اعتبارا من يونيو2007. وعلى أية حال فإن الجهود المصرية لرأب الصدع لم تتوقف والأمل كبير فى تغليب المصلحة العامة على أى اعتبارات أخرى.
سادسا: حدت التطورات منذ أوسلو الدول العربية إلى إعلان مبادرة تاريخية عام 2002 فى محاولة لقطع الطريق أمام إسرائيل للتذرع بشتى الذرائع لإفشال عملية السلام. وحددت المبادرة بوضوح تام عناصر السلام الدائم فى المنطقة الأمر الذى دعا مجلس الأمن إلى الإشادة بها فى قراريه: 1850و1860.
سابعا: لا يملك أى رئيس أمريكى ترف تجاهل مشكلة الشرق الأوسط أو لا يضعها فى مكان متقدم على سلم أولوياته. فبوش الأب شارك فى الدعوة لمؤتمر مدريد 1991، وحرص بيل كلينتون على أن يتم التوقيع على إعلان المبادئ القائم على أوسلو بالبيت الأبيض فى 13سبتمبر 1993 بحضور كل من عرفات ورابين، ثم قام بدعوة عرفات ونتنياهو إلى واى ريفر 1998، ودعا عرفات وباراك إلى كامب ديفيد عام 2000. وأدخل بوش فى قاموس السياسة الأمريكية اصطلاح الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية عام 2002 ثم قام بدعوة عباس وأولمرت إلى أنابوليس عام 2007.
واستبشرنا خيرا بقدوم أوباما عام 2009 حين ألزم نفسه فى وقت مبكر من توليه السلطة بتحقيق تقدم فى أزمة الشرق الأوسط، وعين مبعوثا له يتنقل فى المنطقة.
وأعلن فى القاهرة فى 4 يونيو الماضى تمسكه بحل الدولتين وبضرورة الالتزام بخارطة الطريق وعدم قبوله مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية مؤكدا أنه آن الأوان لأن تتوقف. ولا يمكن لنا أن نتجاهل بدورنا الضغوط التى يتعرض لها أى رئيس أمريكى من قبل اللوبى الإسرائيلى ومن قبل الكونجرس الذى يتبنى مواقفه، وانعكاس ذلك على ما قد يصدر عن الرئيس الأمريكى من تصريحات كتلك التى صدرت عن أوباما بعد أن اجتمع بعباس ونتنياهو فى نيويورك يوم 22 سبتمبر حيث امتدح إسرائيل لبحثها خطوات مهمة من أجل تحجيم النشاط الإسرائيلى. لكن أوباما ما لبث أن عاد فى اليوم التالى مباشرة ليعلن من على منبر الأمم المتحدة أن الولايات المتحدة لا تقبل مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية، وطالب بضرورة بدء مفاوضات الحل النهائى التى تشمل الأمن والحدود واللاجئين والقدس، وكأنه بهذا يرفض المواقف الإسرائيلية المسبقة فيما يتعلق باستمرار الاستيطان وقصر عودة اللاجئين على الدولة الفلسطينية واستبعاد القدس من أى تفاوض مقبل.
غير أنه من الضرورى ألا نركن لكل هذا، لأننا أمام خصم عنيد سيستمر فى ممارساته غير القانونية وهى ممارسات استحقت عن جدارة وصف الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر إياها «بالأبارتايد» أو سياسة الفصل والتمييز العنصرى الذى مارسته حكومات جنوب أفريقيا فى السابق. جاء ذلك فى كتابه «Palestine-Peace not Apartheid?» ويبدو أن الكثيرين فى العديد من دول العالم يشاركون كارتر هذا الرأى. لذلك نشطت التجمعات ومعاهد التعليم والنقابات وبين الأكاديميين فى كل من كندا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا والولايات المتحدة للمناداة باتخاذ خطوات عملية لمناهضة هذه السياسات العنصرية الإسرائيلية، وفرض العزلة الدولية على إسرائيل باتباع أساليب ثلاثة هى:
مقاطعة المنتجات الإسرائيلية التى يكون مصدرها المستوطنات فى الأراضى المحتلة، وعدم الاستثمار فى شراء أسهم وسندات أى شركات يرتبط نشاطها بالنشاط غير القانونى فى الأرض المحتلة، وكذلك فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على إسرائيل. ومن المهم أن نشير هنا على سبيل المثال إلى قيام جامعة هامبشاير فى ولاية ماساتشوستس الأمريكية بحظر قيام الصناديق الخاصة بها بشراء أسهم وسندات ست شركات أمريكية ترتبط أنشطتها بشكل أو آخر بممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية. كانت هذه الجامعة نفسها أول جامعة أمريكية تقرر عدم الاستثمار فى الشركات الأمريكية التى كان نشاطها مرتبطا بالنظام العنصرى فى جنوب أفريقيا.
ويرى ريتشارد فولك، المقرر الخاص لمجلس حقوق الإنسان لشئون الأراضى المحتلة، بأن وقع تقرير جولدستون على الرأى العام العالمى سيكون شديدا وسيعطى زخما جديدا لحملة المقاطعة وعدم الاستثمار على إسرائيل، وهى الحملة التى نشطت فى أرجاء العالم بعد أحداث غزة الأخيرة.
ليست هذه هى المرة الأولى التى اقترح فيها ممارسة الضغوط على إسرائيل وفرض العزلة الدولية عليها إلى أن تقلع عن موقفها وممارساتها. كان ذلك فى مقال نشر بجريدة «الشروق» فى 18 أبريل الماضى، ودعوت فيه إلى تحرك على أربعة محاور أى مع الدول العربية، والدول الصديقة، والاتحاد الأوروبى وصوب الولايات المتحدة نفسها التى سبق لها أن مارست ضغوطا فاعلة إسرائيل فى مناسبات عدة.
واختتمت المقال المذكور بالقول: «فإذا كانت الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستوصد الأبواب أمامنا فى شأن عملية السلام، فالأبواب مفتوحة على امتداد العالم حيث يمكننا من خلالها حمل إسرائيل على الالتزام بمرجعيات السلام التى أرسيت بشق الأنفس على مر السنين».
ولا أحسبنى بحاجة لأن أضيف شيئا إلى ما سبق.