السلام الإسرائيلى.. ماذا بعد تبدد السراب؟

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الخميس 10 أكتوبر 2024 - 8:00 م بتوقيت القاهرة


فى ظل الأحداث الراهنة والحرب الوحشية الدموية الإسرائيلية، يتبين بما لا يدع مجالًا للشك أن أفضل وصف للسلام الإسرائيلى هو السراب الإسرائيلى، الذى يماثل السراب المخادع لمن يسير هائمًا عطشًا فى الصحراء القاحلة، حين تتراءى له من بعيد بحيرة ماء فيهرع نحوها، وهى بعيدة بل تبتعد كلما اتجه إليها، إلى أن يسقط جهدًا ويهلك عطشًا، فالبحيرة المنشودة لم تكن سوى انعكاس أشعة الشمس على طبقات الهواء الساخن فى الأفق، مكونة ذلك السراب المميت.
إنه السلام الإسرائيلى، الذى يماثل إلى حد كبير السلام الرومانى الذى فرضته فرضًا القوة الغاشمة للإمبراطورية الرومانية على الشعوب والبلاد من حولها، بمنطق أنه لكى تكون فى سلام مع روما فعليك أن تتوافق معها وتنصاع لها وتخضع لأمرها، عندئذ ستسالمك روما وستتفادى التعرض لقوتها وتسلم من شرها وأذاها.
والسلام الإسرائيلى بهذا المنطق يتفق تمامًا مع السلام الأمريكى، الذى ينطلق من اعتبار الولايات المتحدة لنفسها أنها القطب الأوحد والأقوى فى العالم، حيث يتم بموجب السلام الأمريكى صياغة العلاقات مع الدول بقدر انصياعها وتجاوبها مع السياسات والمصالح والأهداف الأمريكية إيجابًا أو سلبًا، فإن كان بالإيجاب فلهذه الدولة أن تحظى بالسلام الأمريكى، وإن لم يكن فلتعانِ من هول القوة الأمريكية حتى تخضع وتمتثل صاغرة للإرادة الأمريكية.
الأمثلة على ثمن عدم الامتثال للسلام الأمريكى متنوعة يمكن أن تبدأ من الاتحاد السوفييتى السابق ودول حلف وارسو، وفى أمريكا اللاتينية دول مثل شيلى وفنزويلا مرورًا بدولة كوبا التى ما زالت ترزح تحت الحصار الأمريكى منذ أكثر من ستين عامًا. وفى آسيا، كوريا الشمالية، وفيتنام التى خاضت أهوال الحرب الأمريكية عليها، وكذلك أفغانستان وإيران وسوريا والعراق واليمن.. وحتى الصين نفسها نالتها فى مرحلة ما تداعيات عدم امتثالها لمتطلبات السلام الأمريكى.
السلام الإسرائيلى هو نموذج مصغر للسلام الأمريكى، لكن على نطاق إقليمى مجاله الدول والشعوب العربية، وهو سلام اضطر العرب إليه تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة التى مارستها وتمارسها الولايات المتحدة الراعى الرسمى للكيان الصهيونى، ومن ورائها بريطانيا الأب المؤسس للكيان، وغيرها من الدول الأوروبية الراعية، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها.
• • •
اليوم يجدر بنا أن نتوقف لنتأمل سلوك ذلك الكيان الصهيونى منذ تم فرضه فرضًا على أرضنا وبلادنا، ولنتساءل هل ذلك مسلك من يريد السلام؟ الواقع أن الإجابة هى نعم من وجهة نظر الكيان الصهيونى ومؤسسيه وقادته ورعاته وحلفائه، هذا هو السلام وفق مفهومهم وعلى طريقتهم، السلام المفروض على الآخرين المجبرين عليه بفعل القوة والهيمنة جبرًا وقسرًا.
والجلى الواضح من مراجعة الأحداث والوقائع أننا أمام كيان شديد الخطورة ينادى بالسلام الإسرائيلى، حيث يمارس سياسة عدوانية دموية ثابتة يدعمها رعاته وحلفاؤه بإمدادات كبرى لا تنقطع من السلاح والمساعدات الاقتصادية والتكنولوجية والاستخباراتية والمساندة الإعلامية والسياسية والدبلوماسية فى المحافل الدولية.
السلام الإسرائيلى، هو السلام الذى تم بموجبه ضرب مصنع أبوزعبل ومدرسة بحر البقر فى مصر، وتم بموجبه قصف وتدمير المفاعل النووى العراقى، وقصف وتدمير مجمع الصناعات الدوائية فى السودان، وغزو واجتياح وتدمير لبنان المرة تلو الأخرى حتى بلوغ العاصمة بيروت واقتحامها، وقصف وتدمير المطارات والمواقع العسكرية ومراكز الأبحاث العلمية السورية، وقصف صهاريج النفط وميناء الحديدة فى اليمن.
السلام الإسرائيلى هو السلام الذى امتد فعله يومًا ما إلى تونس عندما ارتكب الصهاينة المجرمون مذبحة حمام الشط، والتى اغتالوا فيها صفوة قيادات منظمة التحرير الفلسطينية المنفيين إلى تونس، وهو السلام ذاته الذى يتعقب الفلسطينيين بالسجن والاعتقال والتعذيب والتنكيل وهدم البيوت ومصادرة الأراضى، وتعقب قادتهم ونشطائهم فى جميع أنحاء العالم خارج فلسطين بالاغتيال والقتل، وهو نفسه السلام الإسرائيلى الذى قتل علماء الهندسة النووية المصريين يحيى المشد وسعيد بدير، والعشرات من العلماء والباحثين المصريين والعراقيين والسوريين.
يتجلى السلام الإسرائيلى اليوم فى الحرب الدموية والتدمير والاغتيالات وارتكاب الجرائم الوحشية التى يصنفها القانون الدولى بأنها جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، والتى كان آخرها جريمة تفجير أجهزة البيجر والاتصالات فى لبنان، ثم اغتيال السيد حسن نصر الله بعد أن وقف وحزب الله موقف الإسناد للمقاومة فى غزة، وأعلن أنه لن يتوقف عن إسرائيل ما لم تتوقف إسرائيل عن غزة، فكان اغتيال كبار قادة حزب الله انتهاء باغتياله واستشهاده.
• • •
رغم هول ما سبق، سيذكر التاريخ مفارقة رهيبة وهى أن العرب والجانب الفلسطينى قد اختاروا السلام مع ذلك الكيان كخيار استراتيجى، وقدموا تنازلًا تاريخيًا هائلًا بقبولهم لوجود إسرائيل والتعايش معها، على أساس حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى وحقه الثابت فى إقامة دولته المستقلة وحقوقه المشروعة.
بل تجاوز العرب والفلسطينيون عن حقهم التاريخى فى الأرض بموجب قرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 بمنح الشعب الفلسطينى 42% من أرض فلسطين التاريخية لإقامة دولته، واكتفوا اليوم بالمطالبة بالأراضى العربية المحتلة فى يونيو 1967 وهى الضفة الغربية وقطاع غزة، والتى تمثل فقط 21% من فلسطين.
فماذا حدث رغم كل ذلك؟! منذ إبرام اتفاقية أوسلو للسلام فى 1993 استمرت إسرائيل فى بناء المستعمرات الاستيطانية دون هوادة فى القدس الشرقية والضفة الغربية، وبلغت مساحة الأراضى التى أقيمت عليها المستعمرات الإسرائيلية والثكنات العسكرية لحمايتها وطرقها الالتفافية والجدار العازل 1864 كم، أى أن إسرائيل قد التهمت بالفعل 44% من مجموع مساحة الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، فباتت تفرض اليوم بذلك أمرًا واقعًا جديدًا يطيح بحلمهم فى قيام دولتهم، إنه السلام الإسرائيلى.
وبعد كل ذلك يبدو أن إسرائيل لا تكتفى بأراضى الشعب الفلسطينى ولا بأرواحهم ودمائهم بل باتت أيضًا ترفض اليوم جهارًا نهارًا حل الدولتين رفضًا نهائيًا، دافعة الأمور فى منطقة الشرق الأوسط إلى حافة الهاوية وتأجيج الصراع والحرب.
هذا هو السلام الإسرائيلى، رغم كل ما تدعيه إسرائيل وتزعمه من خداع وأكاذيب لم تعد تنطلى على أحد، وعندما تظن واهمة أنها انتصرت من قبل وأنها ستنتصر اليوم وغدًا وبعد غد، مقدرة أنها ستفرض السلام الإسرائيلى القائم على القوة والهيمنة من جانبها، والإذعان والامتثال من جانب العرب.
وما ستأتى به الأيام سيؤكد للمرة الألف حقيقة السلام الإسرائيلى، وماذا أعد لنا ولأولادنا ولأجيالنا القادمة؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved