إلى لجنة الدستور: «مصر جزء من أفريقيا»
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 10 نوفمبر 2013 - 7:05 ص
بتوقيت القاهرة
يتحرَج المرء من العودة مرة بعد أخرى إلى الموضوع نفسه، يقلب فى جوانبه ويحاول قدر إمكانه بيان أهمية كل منها. إلا أن الحرج مقبول على النفس طالما كان الموضوع حيويا وتتعلق بالمصلحة الوطنية وبمستقبل مصر والمصريين. أما الموضوع فهو علاقة مصر بقارتها الأفريقية ومناسبة العودة إليه هى اعتماد لجنة الخمسين المكلفة تعديل الدستور عددا من المواد منها بعض تلك المسماة «مواد الهوية»، ومنها المادة الأولى التى تنص على أن «جمهورية مصر العربية دولة دستورية حديثة ذات سيادة وهى موحدة لا تقبل التجزئة، ولا التنازل عن شىء منها، ونظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة، ومصر جزء من الأمة العربية تعمل على تكاملها ووحدتها، وهى جزء من العالم الإسلامى وتنتمى إلى القارتين الأفريقية والآسيوية وتسهم فى بناء الحضارة الإنسانية». إذا غضضنا الطرف عن عبث مفهوم «مواد الهوية»، فإنه يمكن إبداء تعليقات عديدة على هذه الصياغة منها مثلا أنه لا يليق أن ترد كلمة بعمومية «شىء» فى صياغة دستورية خاصة أن هذا «الشىء» يعتبر مكونا من مكونات الدولة الموصوفة وهى مصر. كان الأحرى بالمادة أن تقول «ولا التنازل عن أرض أو مورد فيها»، خاصة أن هذا هو المعنى المقصود. ومن التعليقات الممكنة أيضا أن مصر لا «تسهم فى بناء الحضارة الإنسانية» فقط وإنما تستفيد بها وتتفاعل معها، وتنبع أهمية هذا التعليق من أن ثمة من يريدون لمصر أن تنقطع عن الحضارة الإنسانية وألا تتفاعل معها. وتعليق جائز ثالث هو أنه كان جديرا باللجنة أن تضيف مادة أو فقرة فى نفس المادة تعرِف المقصود بالمواطنة حتى لا يلتف عليها أحد ويفرغها فعليا من أبعاد المساواة وعدم التمييز فيها.
التعليقات تكثر على هذه وغيرها من المواد المعتمدة غير أن موضوع هذا الحديث هو عما ورد فيها من أن مصر جزء من كل من الأمة العربية والإسلامية، وأنها فى مقام ثالث تنتمى، وعلى قدم المساواة، إلى القارتين الأفريقية والآسيوية. واقع الأمر، وأيا كانت الاختيارات السياسية للمراقب، أن مفهوم «الأمة العربية»، ثم انتماء مصر إليها، مفهوم وانتماء مختلف عليهما حتى وإن كان المختلفون أقلية. بالنسبة للكثيرين مفهوم «الأمة» يتعلق بالأمة الإسلامية وهو وقف عليها. ولكن انتماء مصر بكاملها إلى الأمة الإسلامية مختلف عليه أيضا. «الأمة»، ينتمى إليها أناس ولا أساس إقليمى لها؛ الأمة الإسلامية أبناؤها هم المسلمون أيا كانت البلدان التى يقيمون فيها، أما البلدان ذاتها فهى غريبة عن مفهوم «الأمة الإسلامية». الحقيقة الوحيدة التى لا خلاف عليها هى أن مصر تقع فى أفريقيا وهى جزء منها. كيف إذن يلتفت المصريون الذين سيعتمدون دستورهم عن حقيقة لا تقبل فى عقل أحد أى مناقشة؟ كيف يتعالى المصريون على قارتهم ويساوون انتماءهم لها بانتمائهم لآسيا التى لم تعرف كتب الجغرافيا ولا التاريخ أن مصر من بلدانها، حتى وإن كانت قطعة عزيزة منها، هى سيناء، تقع فيها؟ كيف يكون ردُ فعل أبناء قارتنا عندما يقرأون هذه المادة؟ أم أننا نعتقد، متعالين، أن عليهم أن يقبلوا بما نقرره صاغرين؟
الدستور ليس بطاقة شخصية، وإنما هو أداة يستعين بها الشعب لينشئ دولته وليحدد السلطات وتوزيعها فيها، وليحمى حرياته ويصون حقوقه، وليبلغ أهدافه، وأولها تأمين سبل بقائه والارتقاء بظروف معيشته. بعبارة أخرى، للدستور أهداف نفعية. بالإضافة إلى اعتبارات الجغرافيا التى لا محاجاة فيها، أليس من المصلحة الوطنية التأكيد على أن مصر جزء من أفريقيا طالما قبلنا بأن يرسم الدستور أبعاد «الهوية» وبأن يصبح بذلك بمثابة البطاقة الشخصية. مياه نهر النيل، وهو قرين مصر وسبب وجودها، هاجس لا يفارقنا فى نفس فترة تعديل الدستور، ومع ذلك نبخس من قدر انتمائنا إلى القارة التى تأتينا من قلبها هذه المياه. هل هذا من حسن التقدير؟
ولأنه لم يخطر ببال أحد من قبل أن يناقش فى حقائق الجغرافيا، فإن مصر، فى الأمم المتحدة وفى غيرها من المنظمات الدولية، عضو فى «المجموعة الأفريقية»، تنتخب وينتخب المصريون عنها لعضوية الأجهزة المختلفة للمظمات الدولية. ومن أهداف السياسة الخارجية المصرية، التى تتفق عليها جميع القوى السياسية، أن تصبح مصر عضوا دائما فى مجلس الأمن عن القارة الأفريقية عندما يعدَل ميثاق الأمم المتحدة ويصار إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي. مشاريع التعديل الموجودة تتحدث عن مقعدين لأفريقيا، ينافس مصر عليهما جنوب أفريقيا ونيجيريا وربما الجزائر الحريصة دوما على أن تكون فى قلب السياسة الأفريقية. هل يدعم من فرص مصر الانتقاص من قدر أفريقيا بالنسبة إليها؟ ربما شطَ من شطَ وقال لنا اذهبوا إلى آسيا واحصلوا عنها على مقعد دائم فى مجلس الأمن. ثم هل نسى معدلو الدستور مواقف منظمة الوحدة الأفريقية وبلدان القارة فى تأييد مصر والموقف العربى قبل حرب سنة 1973 وأثنائها؟ ألا يمكن أن نحتاج لمثل هذا الموقف يوما، نحن الذين نشكو توغل إسرائيل فى أفريقيا، بل ونتخوف حتى من الصلات المتنامية لتركيا وإيران بها؟ مصر عضو مؤسس فى المنظمة الإقليمية الأفريقية الأولى، منظمة الوحدة الأفريقية، والقاهرة استضافت قمتها الثانية فى 1964 مستفيدة من رأس المال السياسى الهائل الذى جمعته من مكافحة الاستعمار ومن مساندتها لحركات التحرر الوطنى فى الستينيات من القرن العشرين. معجزة هى أنه مازالت لرأس المال هذا بقايا على الرغم من نشاط السياسة المصرية فى العقدين الماضيين فى الابتعاد عن اهتمامات القارة. السياسة الخارجية المصرية تعمل فى الوقت الحالى على رتق ما بلى؛ ماذا يقول المسئولون عنها لنظرائهم الأفارقة إذا ما عاتبوهم على الدرجة الثالثة التى أزاح مشروع تعديل الدستور إليها موقع مصر فى القارة الأفريقية؟ ثلاث وخمسون دولة بثلاثة وخمسين صوتا هى أعضاء الاتحاد الأفريقى وهى أكثر من ربع أعضاء الأمم المتحدة. اليس هذا كنزا تصويتيا ينبغى الحرص عليه؟ ثم نحن غاضبون من تعليق عضوية مصر فى أجهزة الاتحاد الأفريقى بعد التداخل فى العملية الدستورية فى 3 يوليو الماضى. أليس من الفطنة إبراز الانتماء الأفريقى لمصر فى الدستور المعدَل، خلافا لدستور 2012 الذى تعمَد الانتقاص من قدره؟ ألن يكون معنى ذلك أن الترتيبات الدستورية الجديدة أكثر حرصا على أفريقيا من تلك التى أنشأها النظام الذى سقط؟ ألا يمكن أن يساعد ذلك فى عودة من الباب الكبير إلى أجهزة الاتحاد الأفريقى؟ ألا يمكن أن يوفر أساسا دستوريا متينا للتحرك الجارى والمحمود للسياسة الخارجية المصرية فى أفريقيا؟
آسيا قارة النصف الأول من القرن الحادى والعشرين، إن لم يكن القرن كله، ولا بدَ من توسيع وتعميق العلاقات مع مختلف بلدانها وأقاليمها، ولكن مصر ليست عضوا فى أى من تنظيماتها دون الإقليمية، الخاصة بجنوبها، أو بجنوب شرقها، أو وبوسطها، أو بتلك التى تربطها بالمحيط الهادى. لا بأس من ذكر انتماء مصر إلى آسيا باعتبار وقوع سيناء فيها ثم باعتبار عروبتها، ولكن لا يمكن مساواة آسيا بأفريقيا فى ضمير مصر. وطالما الحديث عن الانتماء، ألا نستخلص من التاريخ والجغرافيا أن مصر تنتمى أيضا إلى حوض المتوسط؟ ولكن لهذا الانتماء حديث آخر.