ذات يوم خريفى فى عمر السبعين
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 11 نوفمبر 2021 - 1:55 م
بتوقيت القاهرة
أن أستيقظ مع أول خيط من الشمس يخترق الظلام فأفهم وصف الكثيرين لساعة الشفق بأنها ساعة من السحر.
أن أجلس أمام الشباك فى الصباح أشم القهوة وآخذ وقتى فى ارتشافها فأنا لست على عجلة من نهارى.
أن أعود إلى أيام كنت أتمشى فيها مع ابنتى، أصغر أطفالى، إلى المدرسة وأودعهما هناك وأنتظر أن تلتفت إلىَّ مرتين لتلوح لى بيدها ثم ترمى لى قبلة فى الهواء.
أن أمر بقرب مدرسة فى الحى فتصلنى أصوات الأطفال، إن كنت سأختصر الحياة كلها فى مشهد فهى أصوات أطفال يلعبون فى باحة المدرسة.
أن أتأمل وجه زوجى وهو منهمك فى العمل أو فى التفكير أو القراءة، أعرف ما يشغله وما يركز عليه تفكيره.
أن أقترب منه لحظة الاستيقاظ فأدفن رأسى فى صدره وأتوقف عن التنفس حتى لا يستيقظ فكل ما أريده هو أن أستكين داخله.
•••
أن أعود إلى مساء قرأت فيه مع ابنى درس اللغة العربية وضحكنا معا من القصة القديمة التى كنت قرأتها أنا نفسى فى طفولتى، ولم نجدها مسلية فى زمن ابنى، فجيل أطفالى لا يأخذ حكايات العفاريت بأى جدية.
أن أناقش مع ابنى الأكبر منه فكرة الاستبداد والمستبد المستنير فيسأل «هل المستبد المستنير يعتبر نصف مصيبة بالمقارنة مع المستبد الكامل»؟ يسألنى وقد عشت سنوات الانتفاضات العربية وما بعدها بحثا عن جواب للسؤال ذاته وحكيت له بالتفصيل عن هذه المرحلة فى حياتنا.
أفتح الشباك لأننى أريد صوت الشارع حتى فى المدينة الهادئة التى أعيش فيها. هنا لا يصرخ بائع الورد ولا تصلنى كلمات غزل أتقنتها بائعة العيش البلدى. العيش البلدى: طوال ما هو مفرود فوق طاولات من القش فسيبقى العالم بخير.
•••
نسمة خريفية تشى بلون أوراق الشجر البرتقالية قبل أن أرى الشجرة. ها نحن إذا بين حياتين تسقط الأوراق لتكشف عن هيكل الشجرة قبل أن تلبس ثوبا جديدا بعد شهور فتبرهن أن الحياة لا تتوقف.
اشتريت فستانا جديدا دون مناسبة، أو ليست الأيام العادية كلها مناسبات للاحتفال بالحياة؟
رائحة المطبخ، أو بالأحرى روائحه. المطبخ مركز البيت وعصب حياته، كل شىء يحدث فيه: الخطط والأحاديث والمكالمات السريعة والأخبار وبرامج موسيقية وقرارات مصيرية على رائحة القهوة.
وجه والدى القلق، حضور أخى المطمئن، حركة أمى النشيطة، كلها تفاصيل يومية لا مدة انتهاء لها فهى تتكرر منذ أولى ذكرياتى.
•••
لماذا أعدد هذه المشاهد؟ لأن التفاصيل اليومية تعنى أننى بخير. وجه ابنتى الذى يشرق تماما كما يخترق نور القمر ظلمة الليل فلا يسعنى سوى أن أبتسم لها حين تسألنى «ما بك يا ماما؟ لماذا تنظرين إلى هكذا؟» فأجيبها أنها جميلة.
بداية الخريف الذى يدفع نسيمه برقة الستارة الشفافة أمام شباك غرفة النوم حيث أبقى مستلقية فى السرير دون أى رغبة فى الحركة، فحركة الستارة تكفينى اليوم مع قبلة صباحية أظن أن النسمة طبعتها على خدى.
الخوف: ذلك الوحش العملاق الذى يتربص بى فأدخل رأسى فى صدر زوجى لأحتمى وأتوقف تماما عن التنفس حتى لا يشعر الوحش بوجودى. ربما إن تركته بحاله فسينسانى، ربما سيكمل الوحش طريقه ويلتفت إلى أشياء أخرى من حوله فأعود لأتنفس.
•••
أنا لا أطلب اليوم أى شىء استثنائى. أريد فقط تفاصيلى اليومية وأصوات الصباح فى المطبخ ثم زحمة ما قبل خروج أطفالى إلى المدرسة، ثم مشاكسة زوجى حول اختيار القميص الذى سيرتديه لمقابلة أصدقاء، ويوم عمل عادى يتخلله اجتماع لحل مشكلة مع الزملاء ثم مساء عاديا فى البيت أظن أننى أقرر أن أخبز فيه كعكة بنكهة الليمون طلبها ابنى الأوسط.
أريد أن تمر على وجهى السنوات فتترك خطوطا بعدد القصص التى أثارت عواطفى. أريد أن تكتسح يدى نقاط من النمش تحكى أننى تعرضت لشموس الخريف حين كنت أجلس على كرسى فى الشرفة أراقب الشارع.
•••
أنا امرأة سبعينية راضية عن حياتها أطمئن نساء أكثر شبابا منى أن الأمور ستكون بخير. فى ذات يوم خريفى سأكون أنا فى خريف عمرى أجلس على شرفة البيت أتذكر اليوم وخوفى والوحش المتربص وحضن زوجى حيث اختبأت حين ربت على رأسى ووعدنى أننى سأكون بأمان معه. أنا امرأة سبعينية تملأ جيوبها تعويذات كتبتها ابنتها الطفلة، قصاصات أوراق عليها قلوب وفراشات ألمسها كل حين لأتذكر أنى تمسكت بالحياة من خلال كلمات الطفلة التى لم يتوقف وجهها عن الإشراق فى أحلك أيامى.
أنا امرأة سبعينية بخير أنظر إلى الحياة من حيث أجلس وأفهم أن اليوم العادى هو أكبر هدية.
كاتبة سورية