سمير سيف خارج دائرة الانتقام
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 ديسمبر 2019 - 10:55 م
بتوقيت القاهرة
التقيت بالمخرج الراحل سمير سيف مرات قليلة أولها كان بمكتب المهندس محمد أبو سعدة وقت إدارته لصندوق التنمية الثقافية وكان اللقاء عابرا اقتصر على عبارات الإعجاب التقليدية التى يقدمها مشاهد لمخرج يراه لأول مرة، وفى نهاية اللقاء الذى كان على هامش اجتماع رسمى طلب منى أن أذكره باسمى لأنه يريد أن يسجل رقمى على هاتفه وكانت حيلة ذكية منه لمعرفة الاسم دون أن يتسبب لى فى حرج.
ولما فعلت سألنى إن كنت كتبت مقالا عن فيلمه (معالى الوزير) وأدهشتنى ذاكرته التى جعلته وهو المخرج اللامع يتذكر مقالا كتبه صحفى شاب من خارج الحقل السينمائى قبل عشرين عاما
ولما أكدت له أنى صاحب المقال قال لى إنه يتذكره لأن معلومة تاريخية وردت فيه لم يكتبها أحد من بين من علقوا على الفيلم وقت عرضه وشكرته ومضيت.
وظل فى كل لقاء بعدها يبتسم ويقول لى (إنت بتاع التاريخ والأدب مش السينما) وبمحبة حقيقية نجلس لنتحدث ونمضى بعدها فى انتظار المصادفة المقبلة، وحين انتشر خبر وفاته حزنت مثل جميع من عرفوه ومر أمامى شريط أفلامه وكانت كلها تمثل علامة فى ذاكرتى منذ أن أدركت معنى السينما ومتعتها وأعتقد أن فنانا أخرج أفلاما مثل (دائرة الانتقام والغول والمتوحشة والمشبوه وغريب فى بيتى ومعالى الوزير آخر الرجال المحترمين، ديل السمكة) لابد وأن يعيش إلى الأبد
فى كل مشهد من تلك الأفلام لحظة إشراق أضاءت الروح واستقرت فى القلب وبعد سنوات من الخبرة لا أزال محبا لها كلها، أستعيد جملا من حواراتها كأنما للمرة الأولى وأكتشف فى كل مشاهدة كيف أنها سارت معى فى حياتى كلها وصارت توازى معانى الأخوة والصداقة والحب وزرعت قيما وأفكارا استوطنت ذاكرتى وشكلت وجدانى بحيث صرت مدينا لهذا الخيال.
فى لقاءاتنا القليلة كنت أعترض على اختصار مجده فى الجانب التقنى المتعلق بكفاءة إخراجه لأفلام الحركة وأرى فى كل ما قدم مساحة من التأمل الفلسفى العميق الذى يقدم الحياة كما عاشها هو نفسه ولا يراها فى مكان آخر، فقد انعكس صفاؤه الداخلى على ما قدم وعاش بتوازن نادر خارج كل دوائر الانتقام.
وبينما اختلت عجلة القيادة ببعض أبناء جيله وأخذتهم إلى مسارات أخرى احتفظ هو بالنقاء الذى مكنه من النجاة من أى منزلق اندفع إليه آخرون، فلم يضبط خارج الكادر الذى ضبطه بدقة ومهارة
وكان متناغما مع خيارات أبطال أفلامه التى صنعها بنبرة صادقة غلفت رؤاه وكانت لا تعكس حيويته فقط وإنما تشير كذلك إلى رهانه على فكرة الاستمتاع كقيمة متحررة من أى التزام، باستثناء الإخلاص للفن إلى جانب حساسية بالغة فى بناء المعانى التى يؤسس لها دون ضجيج ينمط من قضاياها ويضعها فى إطار أيديولوجى صارخ يجفف من طابعها الوجدانى.
عرف كيف يستثمر فى اللحظات العابرة والهشة ويخلدها احتفظ لأبطاله بكل ما فى الخذلان من ندوب وانكسارات وآمن أن فى الضعف الإنسانى جلال يستحق أن نتوقف أمامه وبسبب ذلك كله جاء وداعه فى صورة غير معتادة حافلا بالمعانى النضرة التى تبادلها المشيعون على صفحات التواصل الاجتماعى وأجمعت على نبل صفاته ومقاصده وكان وداعه تجسيدا لنعم كبيرة وعظة، تظهره كرجل ناجح عاش بلا صراعات، أخلص للمهنة ولتلاميذه ومارس للفن بلا التزام سوى ضميره
وترك لنا جملا تزدهر رغم الغياب كأنها ظلت على لسانه ومنها فى فيلم المشبوه (نصيبك على قد نيتك يا ماهر / يعنى أنا نيتى حلوة للدرجة دى).