«عقدة الخواجة» الإسرائيلى

محمد علاء عبد المنعم
محمد علاء عبد المنعم

آخر تحديث: الأحد 10 ديسمبر 2023 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

يشير مصطلح «عقدة الخواجة» فى الاستخدام الدارج إلى الإعجاب الأعمى بالأجنبى لدرجة الانبهار وتغييب العقل، بحيث يصبح كل ما يأتى من هذا الأجنبى مادة للتقدير ونموذجا للتقليد الأعمى.
يختلف تعريف الأجنبى من فترة لأخرى ومن مكان لآخر، وهو فى العصر الحديث وفى عالمنا المعاصر غالبا ما يشير إلى دول ما يعرف بالعالم الغربى، تحديدا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وقد التفت ابن خلدون لهذه الظاهرة حين أشار إلى ولع المغلوب بتقليد الغالب، ربما ظنا منه أن انتصار طرف على آخر معناه التفوق المطلق للغالب فى كل مناحى الحياة، وربما لإحساس المغلوب بدونية تدفعه للبحث عما يقلده فى الغالب تعويضا عن بعض كرامته المهدرة أو شعوره بالانهزام.
تناول الراحل جلال أمين هذه الظاهرة فى كتابه «أسطورة التقدم والتخلف»، فأشار إلى أن الأمة المغلوبة تميل إلى رؤية الغالب باعتباره الأفضل فى جميع مناحى الحياة، فتصير روايته التاريخية وقيمه وأفكاره وعلاقاته الاجتماعية وغير ذلك هى الأفضل بلا جدال، فإذا كانت الغلبة للأجنبى فى الحرب، على سبيل المثال، انسحبت القناعة بتفوقه العسكرى إلى إيمان مطلق بتفوقه فكريا وحضاريا واجتماعيا، إلخ.
ويرى جلال أمين أن المثقفين والمتعلمين بوجه عام، وربما من رغب فى السير على نهجهم سعيا لتميز أو سلطة، هم الأكثر عرضة للإصابة بعقدة الخواجة، فهم ليسوا فقط الأقرب للتعرض لفيض تأثيراته الواردة من الإعلام والمؤسسات البحثية وغيرها، ولكنهم أيضا أقرب للاستفادة من التقرب لقيم الأجنبى التى تجلب معها الجوائز والتقديرات الدولية والمناصب الرفيعة، إلخ.

• • •

استشرت عقدة الخواجة لدى كُثر فى عالمنا العربى، ليس فقط جهة الغرب، ولكن جهة دولة إسرائيل كذلك، والشواهد على هذا الأمر عديدة.
ظهر فى ساحات الإعلام مفكرون وباحثون وكتاب أطلوا على المشاهدين بخطاب يتماهى مع الروايات الإسرائيلية، بل ويسعى أحيانا لدعمها من المنظور المصرى أو العربى أو الإسلامى، مثلا الرجوع للقرآن والسنة لإثبات روايات صهيونية لا يبدو أن لها أساسا علميا. تتقاطع هذه الأطروحات مع ساعات من البث الإعلامى الذى يدعى تبنى إصلاح الخطاب الدينى.
اللافت للنظر فى تحليل «عقدة الخواجة» الإسرائيلى هو التوجه لتفكيك الرواية العربية والإسلامية، والإقرار بروايات بلا سند واضح، حتى يبدو أحيانا أن الهدف هو التبرؤ من أى عقدة ذنب تجاه العجز عن مجاراة تفوق إسرائيل العلمى والعسكرى، أو مواجهة همجية الاحتلال وتوحشه، فالمتفوق دائما له بريقه. وذهب آخرون إلى أنه لا مجال للتنمية والتقدم العلمى فى عالمنا العربى دون التقارب مع إسرائيل والتطبيع الكامل معها. وبينما بقيت استطلاعات الرأى العام العربى تعكس تحفظ المجتمعات العربية جهة التقارب مع إسرائيل وجهة نواياها، حتى فى الدول التى وقعت على ما عُرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، بدا أن عددا من الساسة والمثقفين يتبنون مواقف مغايرة.
لا شك أن دولة إسرائيل قد حققت تفوقا على جيرانها العرب فى عدة مجالات، ولا يقتصر هذا التفوق على الجانب العسكرى، بل تفوقت كذلك فى التعليم والبحث العلمى والاقتصاد، بل تفوقت أيضا من الناحية السياسية رغم التمييز المنهجى الذى تتبعه ضد العرب سواء ممن يحملون جنسيتها (عرب 48) أو سكان القدس، أو الفلسطينيات والفلسطينيين فى الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
ورغم هذا فإن هذا التفوق يعانى من أوجه خلل نابعة من طبيعة الاستعمار الاستيطانى الإحلالى الذى قامت عليه دولة إسرائيل. كما أن مواقف الغرب الداعمة لها تبدو استمرارًا لأفكار استعمارية لا يمكن أن تتفق مع ضمائر الشعوب، بعيدا عن أية حسابات سياسية.

• • •

أجد من أهم نتائج المقاومة الفلسطينية للاحتلال والعنصرية الإسرائيلية، والتى شهدت تطورا نوعيا فى عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر الماضى، أنها شجعت المواطِنة والمواطن المصرى، والعربى فى عدة دول، على إعادة اكتشاف الذات، والإيمان بدور الفرد وقدرته على التغيير، والقناعة بقدرة العمل الجماعى على إحداث فارق فى إدارة الشأن العام.
انتقد البعض غياب الحراك فى الشارع، خاصة بالمقارنة بالحراك الذى شهده الشارع العربى خلال انتفاضة الأقصى عام 2000، أو مقارنة بالمظاهرات التى شهدتها عدة دول حول العالم منذ بدء العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة.
الواقع أن الحراك قائم، ولكن ربما فى مساحات أكثر أمانا، أو أقرب لإحداث أثر فى المواجهات الإعلامية القائمة سعيا لكسب التأييد لعدالة القضية الفلسطينية.
حدثنى طلبتى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عن جهودهم فى الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعى، وحدثونى عن قناعاتهم بإمكانية التأثير فى واقعهم، رغم عوامل اليأس، وأن قدرة الشارع الغربى على التأثير على سياسة الحكومات قد ألهمتهم يقينا بقدرتهم على التأثير من خلال العمل الفردى والجماعى، التأثير من خلال تنمية الوعى داخليا وخارجيا.
أزعم أن قطاعات من الشعوب العربية، خاصة الشباب بل والأطفال أيضا، لن تعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023. فى أحد محلات التسوق (سوبر ماركت) شاهدت طفلا لا يتجاوز عشر سنوات من العمر، وقف يطلب من أمه شراء آيس كريم، وقفت الأم أمام الثلاجة متأملة، ثم قالت لطفلها «التلاجة دى يا حبيبى كلها مقاطعة». نظر الطفل إلى أمه متفهما، وهز رأسه بالموافقة ومضى فى طريقه، وأمه تلحق به. هذا الطفل يعى معنى أن يكون صاحب قضية، وأن بإمكانه التأثير الإيجابى فيما يجرى حوله، كفرد وكجزء من مجموعة.
لا أناقش هنا تقييم المقاطعة وجدواها، ولكنى أراها تطرح نفسها كعمل جمعى يعبر عن إرادة مشتركة، واعية ومؤمنة بقدرتها على التأثير.
إن القدرة على التفكير فى الغرب، ودولة إسرائيل، بطريقة نقدية وعقلانية، والإيمان بقدرة الأفراد على التغيير، وإمكانية العمل مع آخرين فى سبيل التأثير فى مجريات الأحداث، هو من أهم ما خرجنا به من عملية 7 أكتوبر وما بعدها. قد نخسر فى حروب الإعلام وفى ساحات صياغة الرواية الرسمية لما جرى. ولكن يبقى أمل فى قطاعات وأجيال ترى العالم برؤية موضوعية، وربما تتجاوز «عقدة الخواجة» بمرارتها وانكفائها وإحساسها الدائم بالهزيمة والعجز.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved