زيارة إلى ماربورج
محمد علاء عبد المنعم
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
أمضيت أسبوعًا، خلال شهر نوفمبر الماضى، فى مدينة ماربورج بولاية هيسين Hessen الألمانية. ماربورج مدينة جميلة وعريقة، لا يتجاوز سكانها الثمانين ألفًا، وهى من الحواضر، التى يطلق عليها بلدة جامعية University town، وذلك بالنظر لمركزية جامعة فيليبس ماربورج فى بنيتها الاجتماعية والثقافية، فكثير ممن يعيشون بالمدينة من الطلاب والأساتذة، وكثير من نقاشاتها وأنشطتها مرتبطة بالبيئة الجامعية، ما يعطيها رونقًا ثقافيًا خاصًا.
المدينة مريحة للعين والذهن، تخلو من ناطحات السحاب والأبنية الشاهقة التى نراها فى العواصم الحضرية الكبرى، مثل فرانكفورت ونيويورك، تتزين مبانيها بألوان مبهجة ومتنوعة ونقوش ساحرة، تتحرر من صخب المدن الكبرى وازدحامها وتلوثها.
جاءت زيارتى ضمن برنامج للتبادل الأكاديمى تابع للاتحاد الأوروبى، ألقيت خلالها محاضرات لطلبة فى مرحلتى الدراسات العليا والبكالوريوس فى جامعة فيليبس ماربورج حول السياسات العامة فى مصر، والشرق الأوسط بوجه عام، خاصة فيما يتعلق بالتعليم والشباب.
أثار الصفاء الذهنى فى هذه المدينة الهادئة، والصاخبة فكريًا، أفكارًا وشجونًا حول التعليم العالى فى مصر، وطرحت المناقشات مع أساتذة الجامعة مبادرات بحثية بدأ بعضها فى التبلور بعد أيام من العودة إلى مصر.
• • •
أول الشجون التى ثارت خلال هذا الأسبوع ارتبطت بقضية تمويل التعليم العالى؛ سياسات التقشف المالى انعكست فى حرمان الجامعات الحكومية المصرية وأساتذتها من الموارد الأساسية اللازمة للقيام بالبحث العلمى وتشجيعه، ناهينا عن فرص الحياة الكريمة التى تسمح بالتفرغ للعمل الأكاديمى، حتى إن الإنجازات المشهودة للجامعات الحكومية المصرية وفق التصنيفات الدولية صار يقابلها تعطيش مادى دفع بمئات من أساتذتها إلى سعى محموم نحو التدريس فى جامعات خاصة وأهلية، والعمل فى جهات أخرى، أملًا فى اللحاق بقطار التضخم الجامح، ومع الوقت صارت إمكانية تخصيص وقت للبحث العلمى حلمًا بعيد المنال لكثير منهم.
بل إن التشجيع المعنوى للبحث العلمى قد تراجع أيضًا، فى بعض الحالات توقفت الجامعة عن إرسال بطاقات تهنئة للأساتذة الذين ينشرون أبحاثهم فى دوريات علمية ذات شأن، اكتفاء بتحويل المكافآت المالية إلى حساباتهم البنكية، وهى المكافأة التى يحصلون عليها بعد معاناة مع الأوراق المطلوبة لإثبات النشر فى الدورية أو دار النشر التى يدعون النشر فيها. ومن الطريف أن إحدى الجامعات الحكومية الكبرى تطلب تقديم أوراق طلب مكافأة النشر الدولى إلكترونيًا (أون لاين) وإرسال نسخة ورقية من الطلب شاملة لجميع الأوراق إلى إدارة الجامعة.
ومع هذا، أرى أن التعطيش المادى من شأنه تشجيع البحث عن فرص لتمويل الأبحاث من خلال مؤسسات بحثية دولية أو إقليمية ومحلية، وهو اتجاه عالمى خاصة مع الضغوط المالية التى تواجهها كثير من الجامعات حول العالم. وتشجع الحكومة المصرية ومؤسساتها تنويع طرق تمويل الأبحاث العلمية، وعلى رأسها وزارة التعليم العالى والبحث العلمى وهيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
أتمنى تنسيق السياسات الداعمة لهذا التوجه، الذى نجح فيه عديد من أساتذة الجامعات المصرية الذين اجتذبوا تمويلات ذات شأن لأبحاثهم. على سبيل المثال، من المهم إعادة مناقشة الإعفاءات الضريبية على الأجهزة المستوردة لأهداف البحث العلمى والتوسع فى هذه الإعفاءات، مع أهمية تيسير الإجراءات البيروقراطية والإدارية المطلوبة حتى لا تشكل عوائق أمام البحث والتبادل العلمى.
يرتبط بتشجيع البحث العلمى والتمويل الخارجى للأبحاث وضع سياسات لضمان التنافسية بين أعضاء هيئات التدريس فى الجامعات، بحيث ترتبط الترقيات والمكافآت والمراكز الأكاديمية بالأبحاث المنشورة والتمويلات التى يحصلون عليها، وتعد المنافسة أحد أهم معايير الحصول على وظائف جامعية وضمان التميز الأكاديمى فى كثير من الجامعات حول العالم.
الأمر الآخر الذى أثار شجونى هو تراجع دور مراكز الأبحاث فى الجامعات المصرية. عندما تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مع بدايات الألفية الثانية، كانت مراكز الأبحاث بالكلية زاخرة بأنشطة وأبحاث ودراسات لا تكاد تهدأ. وكانت مصدرًا ليس فقط للاستشارات وإثراء النقاش العام والمساهمة فى توجيه السياسات الحكومية، لكنها كانت أيضًا مراكز لتدريب باحثين وناشطين من الشباب المهتمين بقضايا العمل العام.
الآن، مع الأسف، أجد كثيرًا من هذه المراكز البحثية، التى تربى الكثيرون فى رحابها سياسيًا وأكاديميًا، فى حالة من السبات العميق، على الأقل مقارنة بأوائل الألفية، ولهذه الحالة شجون أخرى ليس هذا مجال لمناقشتها.
على الجانب الآخر، وجدت زخمًا فى مراكز بحثية ألمانية أتيحت لى فرصة الحديث عنه مع أساتذتها خلال زيارتى، ويأتى تمويلها من مصادر حكومية، وفى أحيان أخرى من مصادر دولية أو خاصة، حسب طبيعة المركز.
من خلال المصادر الحكومية لتمويل المراكز البحثية تستطيع الحكومة البناء على الثروات البشرية والإمكانيات الموجودة فى الجامعات، لتستفيد منها فى صنع سياساتها وتطبيق برامجها، من خلال توجيه جهود هذه المراكز لبحث قضايا ذات أولوية للحكومات، وهو ما لا ينبغى أن يتعارض مع استقلالية هذه المراكز التى يتاح لها البحث عن فرص تمويل أخرى غير حكومية. وتتشابه بعض أوجه الشجون الجامعية الأوروبية مع الحالة فى جامعاتنا.
لا شك أن أزمة الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة وضعت قيم الحريات الأكاديمية وحرية التعبير والمشاركة السياسية محل اختبار حول العالم، وفشلت كثير من دول أوروبا فى الاختبار بدرجات مختلفة، ولا شك أيضًا أن خفوت المظاهرات الطلابية المناهضة للحرب فى غزة عالميًا يعود فى جزء منه لسياسات الترهيب والعقاب التى اتبعها عدد من الجامعات والحكومات فى «العالم الغربى الحر».
علمت من مناقشاتى أن عددًا من الأساتذة الألمان تلقى تهديدات بوقف التمويلات التى حصلوا عليها لأبحاثهم نتيجة لمواقفهم الداعمة لغزة والرافضة للسياسات الإسرائيلية الهمجية.
فى هذه الشكاوى إشارة لتدخلات سياسية وأمنية فى الأنشطة الجامعية، وهو أمر ليس غريبًا على الجامعات الأوروبية، والشواهد على هذه التدخلات لا تكاد تنقطع. وتكمن القدرة فى الدفاع عن استقلالية الجامعات وحرية التعبير فى قدرة هؤلاء الأساتذة والطلاب، والمجتمع عامةً، على الاعتراض وفضح التدخلات السياسية والأمنية فى الأنشطة الجامعية، ورغم وجود هذه الإمكانية، لا يمكن القول إنها نجحت فى مجابهة طوفان الترهيب الذى تواجهه الجامعات حول العالم إذا أرادت الدفاع عن حريتها وقدرتها على التعبير والبحث، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.
• • •
من الأمور التى لفتت نظرى خلال الزيارة هو طرق التدريس. القدرة على التدريس من معايير تقييم الأساتذة فى كثير من الجامعات الأمريكية، وتتميز المقررات الدراسية فى الجامعات الأمريكية والكندية وغيرها بعديد من التكليفات التى يقوم بها الطلاب خلال الفصل الدراسى، ومنها أوراق بحثية وعروض تقديمية وامتحانات فصلية، إلخ، مع أهمية الحضور والمشاركة خلال المحاضرة كمعايير لتقييم الطلاب.
فى جامعات أوروبية عدة نجد التركيز الأساسى على الأبحاث لتقييم أعضاء هيئات التدريس، يليه فى أحيان كثيرة القدرة على جذب التمويل للأبحاث، أما التدريس فيحظى بمكانة تالية للبحث العلمى والتمويل، ولا يحتاج الطلاب فى كثير من الأحيان لتقديم نفس العدد من التكليفات والأبحاث والعروض التى يقدمها نظراؤهم فى جامعات أخرى، ويقتصر الأمر على امتحان واحد فى آخر الفصل الدراسى لتقييم الطلاب.
وفى جميع الأحوال، تبقى المنافسة بين الأساتذة والطلاب على المنح والفرص التدريسية عناصر أساسية للبيئة الأكاديمية. ويبقى الاهتمام بالبحث العلمى وتوفير الإمكانيات اللازمة له، وتهيئة مناخ محفز على الإبداع، عناصر أساسية للتقدم.
• • •
علينا إعادة التفكير فى أولويات تعليمنا العالى، بما فيها أولويات الإنفاق، والعمل على إتاحة مناخ حر وتنافسى يشجع البحث العلمى والربط بين التعليم العالى ومخرجاته البحثية من جهة، واحتياجات سوق العمل والعمل العام من جهة أخرى. علينا أن نثق فى جامعاتنا وأساتذتها، فهم، تاريخيًا وإلى الآن، مصادر أساسية لقوة مصر المادية والناعمة.