لا أحد يعرف على وجه اليقين تفاصيل ما سمى بصفقة القرن، وهو الوصف الذى أطلقه بنفسه الرئيس عبدالفتاح السيسى على مشروع تسوية شاملة للصراع الفلسطينى العربى مع إسرائيل، فى مؤتمر صحفى مشترك مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى البيت الأبيض فى العام الماضى، وذلك باستثناء القائمين على إعداد المشروع، والتفاوض السرى حوله من المسئولين الرسميين فى الدول المشاركة، أو المرشحة للمشاركة فيه.
لهذا السبب لا مفر من الاعتماد على التسريبات الصحفية حول مضمون هذه الصفقة، جنبا إلى جنب مع الترجيحات المتدفقة من مراكز الأبحاث قريبة الصلة، آخذين فى حسباننا أنها قد تخطئ، وقد تصيب، لأنه يستحيل عقلا أن تكون كلها خاطئة، مثلما يستحيل تصور أن كل ما يقال سوف ينفذ بحذافيره، وآخذين أيضا فى الحسبان أن أحد الأغراض الرئيسية من تلك التسريبات هو إطلاق بالونات اختبار للأجواء العربية على وجه الخصوص، وفى الوقت نفسه تهيئة الرأى العام العربى نفسيا وذهنيا لاستقبال التطورات الدراماتيكية المحتملة دون إحساس كبير بالصدمة أو الخديعة، مما يسهل تنفيذها، بأقل قدر ممكن من المعارضة أو الاضطراب.
تقول تلك التسريبات: إن الصفقة سوف تشمل حلا نهائيا للقضية الفلسطينية، تضم إسرائيل بمقتضاه مساحات واسعة من الضفة الغربية، وتحتفظ بالقدس عاصمة موحدة لها، مع تنازل الفلسطينيين عن حق عودة اللاجئين أو تعويضهم، وإذا كان لابد من التعويض للوفاء شكلا بمتطلبات قرار دولى قديم، فسيدفع عرب النفط هذا التعويض نيابة عن إسرائيل، وأيضا مع إقرار الدول العربية وفى مقدمتها الدولة الفلسطينية ــ التى سوف يسمح بقيامها ــ بالطبيعة اليهودية الخالصة للدولة الإسرائيلية.
وتضيف التسريبات أن هذه الدولة الفلسطينية التى سوف تنشأ سيكون مركز الثقل فيها هو قطاع غزة، بعد أن يضم إليها شريط ساحلى من شبه جزيرة سيناء المصرية، حتى حدود مدينة العريش، لتخفيف الكثافة السكانية العالية جدا فى القطاع، ولإستيعاب لاجئى المخيمات فى الضفة ولبنان والأردن، وفى غزة نفسها، وذلك مقابل مساحة مماثلة من صحراء النقب الإسرائيلية تضم إلى مصر، مع اتصال برى مع المشرق العربى عن طريق أنفاق، تخضع للسيادة والإدارة المصريتين، على أن تكون هذه الأنفاق جزءا من مشروع عملاق للنقل والتجارة، يدر على المصريين عائدا ماليا ضخما، وفوق ذلك تقدم الأطراف الدولية والعربية الراعية للصفقة، والشريكة فيها معونات مالية لمصر تقدر بنحو 200 مليار دولار.
(من المهم للغاية هنا أن نتذكر، ونذكر أن المتحدث الرسمى باسم الرئاسة المصرية أصدر فى عدة مناسبات بيانات تنفى الموافقة، أو الاستعداد للموافقة على التنازل عن أراض فى سيناء للفلسطينيين، أو على تبادل أراض مع إسرائيل).
وإذ نقدر هذا النفى المصرى على أعلى المستويات، ونعتبره موقفا نهائيا، فإن ذلك لا يمنع، ويجب ألا يمنع من مناقشة منطق مروجى صفقة القرن ــ بالمضمون السابق عرضه تواــ فى إسرائيل والولايات المتحدة، وبعض العواصم العربية من زاوية الثمن المطلوب من إسرائيل مقابل هذه الصفقة، بما أنها ــ أى إسرائيل ــ سوف تحصل على الأرض والأمن، والاعتراف والتطبيع مع الدول العربية والإسلامية قاطبة، وسوف تعفى مرة واحدة، والى الأبد من المسئوليات القانونية والسياسية والأخلاقية والمالية عن إغتصاب أرض الشعب الفلسطينى وتشريده، وعن المذابح التى ارتكبت فى حق أبنائه، وفوق كل ذلك فإنها ــ أى إسرائيل ــ سوف تحصل على تحالف استراتيجى مع الدول العربية السنية ضد إيران الشيعية، وحلفائها فى المشرق العربى، وفى جنوب الجزيرة العربية.
من الواضح أن الثمن المطلوب من إسرائيل لن يتجاوز مساحة من الأرض الصحراوية غير المأهولة، وغير المطلة على البحار، مقابل أرض مصرية مأهولة، ومطلة على البحر المتوسط، يضاف إلى ذلك المساحات اللازمة تحت الأرض للأنفاق بين مصر وبين المشرق العربى، وربما أيضا مساحة لنفق تحت الأرض بين ما سيتبقى من الضفة الغربية وبين الدولة الفلسطينية (الموعود بها) فى غزة وساحل سيناء، مع احتفاظ إسرائيل بسلطة التفتيش الأمنى للنفق الفلسطينى.
وأما ما سيقدمه الجانب الإسرائيلى من أثمان من خلال التحالف ضد إيران، فهو لمصلحة أمنهم قبل أى طرف آخر، ولن يمنعها من تفضيل هذه المصلحة على مصالح حلفائها العرب الجدد إذا تسنى لها فى يوم من الأيام عقد صفقة مع إيران نفسها، فهل يعد هذا ثمنا معقولاــ ولا نقول عادلا ــ لما سيقدمه العرب من تنازلات، بل وتضحيات فى هذه الصفقة المقترحة؟!والأهم هل يكفى هذا الثمن من جانب إسرائيل لضمان سلام عادل ودائم على أساس من توازن المصالح بين جميع الأطراف؟!
الإجابة الفورية والقاطعة هى لا.. ولا.. ولا، لأن الغنم الإسرائيلى من الصفقة سيكون أكبر بكثير من الغرم، والعكس صحيح فى حالة الأطراف العربية جميعا، بل يمكن القول دون مبالغة إن إسرائيل ستأخذ كل شىء مقابل لا شىء تقريبا، بما أن صفقة القرن ــ وفقا للمنشور عنها ــ لم تتطرق من قريب أو بعيد لقضية الأمن الجماعى فى المنطقة، كما لم تتطرق إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية عبر الحدود بين إسرائيل وبين الدول العربية، خاصة الدولة الفلسطينية.
الأمن الجماعى يتطلب تمتع جميع دول المنطقة ــ فى إطار صفقة يطلق عليها وصف صفقة القرن ــ بالدرجة نفسها من الأمن، ولهذا شروطه المعروفة من تحديد التسلح، والرقابة المتبادلة، وبناء الثقة، وخاصة نزع أسلحة الدمار الشامل، التى تحتكر إسرائيل وحدها امتلاكها، والقدرة على إنتاج المزيد منها، مما يوفر لها تفوقا جسيما على جميع جيرانها، فضلا عن تفوقها المضمون أمريكيا فى الأسلحة التقليدية دفاعا وهجوما.
فى هذه النقطة ربما يجادل بعض العرب المتحمسين لصفقة القرن بالحجة الإسرائيلية القائلة بأن هناك أطرافا فى الإقليم ستبقى معادية لإسرائيل، ومستعدة لشن الحرب عليها، بعد عقد صفقة القرن والمقصود هنا هو إيران وحلفاءها، والرد المفحم هو أن إيران خاضعة لإشراف وكالة الطاقة النووية، وهى طرف فى اتفاق دولى ملزم يمنعها من إنتاج سلاح نووى، والأهم هو أنه يمكن للأطراف العربية الاكتفاء فى المرحلة الحالية باتفاق تحت رعاية مجلس الأمن تلتزم فيه إسرائيل بنزع أسلحة الدمار الشامل، بعد التأكد من التزام جميع دول الأقليم بعدم امتلاك هذه الأسلحة، بما فيها إيران، شريطة خضوع الجميع ــ فيما بعد ــ لتفتيش دولى وإقليمى.. وثنائى، خصوصا بين إسرائيل وجيرانها المباشرين، لا سيما مصر.
وأما من حيث طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية عبر الحدود بين إسرائيل والدول العربية، فإن المطلوب هو فتح هذه الحدود للسفر والإقامة والعمل، بعد فترة كافية من بناء الثقة، واستتباب الأمن الداخلى لكل الأطراف، إذ سيؤدى فتح الحدود إلى دمج إسرائيل كدولة عادية فى المنطقة، بما يعنى تخليها عن عقيدة الحدود العدائية المغلقة فى وجه الجيران، والتى هى من أهم خصائص الكيانات الاستيطانية الحريصة على عدم التفاعل مع الآخرين من حولها، إلا تحت مظلة الهيمنة والردع.
لا يعنى كل ما تقدم موافقة الكاتب كمواطن مصرى على مبدأ التنازل عن جزء من أرض الوطن، أو تبادل هذا الجزء مع أى دولة، أما ما ورد فى المقال من مقترحات حول الثمن المطلوب من إسرائيل لصفقة القرن، فإن الهدف منه هو إثبات كم هى قسمة ضيزى تلك التى يعرضها علينا ترامب ونتينياهو، ومن يلف لفهما فى هذه العاصمة العربية أو تلك، وفقا للقول المأثور: من فمك أدينك.