الشوام فى مصر.. يا جارة الوادى سلامًا

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 11 يناير 2025 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

قبل عشر سنوات تقريبًا صدر كتابى الأول الذى يؤرخ لتاريخ مؤسسة ثقافية عريقة عمرها الآن 135 عامًا، أسسها الرائد اللبنانى الكبير نجيب مترى. لم يكن ممكنا الحديث عن أى تفاصيل أو تاريخ مفصل لهذه المؤسسة أو أدوارها الثقافية الكبرى التى تجاوز أثرها حدود مصر إلى جميع أنحاء العالم العربى، من دون الوقوف عند محطة هجرة الشوام إلى مصر منذ النصف الثانى للقرن التاسع عشر.

 


المصادر كانت شحيحة للغاية، لا تجاوز الكتب الأربعة أو الخمسة بأقلام كتاب لبنانيين بالأخص، وكان على رأسهم الكاتب والمؤرخ اللبنانى الكبير فارس يواكيم الذى كان بدوره ابنًا لأسرة لبنانية هاجرت إلى مصر واستقرت فيها، وولد بها.
انشغل الأستاذ فارس بهذا الموضوع كتابة وتأريخا طوال ما يقرب من ربع القرن، وكانت ثمرة هذا الانشغال الطويل كتابًا مرجعيًّا رائعًا سوف يصدر فى معرض الكتاب قريبا.
يقول الأستاذ فارس فى تصديره للكتاب الذى يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير:
«تحية قلبية إلى «الشوام» الذين قصدوا مصر واستوطنوا فيها وأحبوها بلدًا وشعبًا، واندمجوا فى مجتمعها، وإلى مصر، عروس النيل، التى كانت لهؤلاء الشوام الوافدين إليها واحة الراحة والأمان وصدر الترحاب والحنان. وكان والداى على غرار أولئك «الشوام»: مولدهما ونشأتهما الأولى فى لبنان، وإقامتهما معظم سنوات العمر فى الإسكندرية.
وشاء القدر أن يموت كلّ منهما فى لبنان حيثما وُلد: أبى فى بلدة قيتولى (قضاء جِزّين) وأمى فى مدينة زحلة (عاصمة البقاع). وكان فى جزّين فندقان: الأول «فندق الأهرام» والثانى «فندق فلسطين» وكان العديد من أهل مصر وفلسطين يحب الاصطياف فيها. أما زحلة، فهى التى أطلق عليها أمير الشعراء أحمد شوقى لقب «جارة الوادى» وكتب عنها واحدة من أجمل قصائده. وكان أبى، ومثله أمى، يحكى للمصريين عن لبنان بلسان المحبّ، وبلسان المحبة ذاته يحكى لأهل لبنان عن مصر. وعلى خطى الوالدين زرعتُ فى قلبى حبّ مصر ولبنان، وامتدادًا بلاد الشام».
(2)
كانت إحدى السمات البارزة للمجتمع المصرى منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين حيويته الكبيرة، والتى كان أهم أسبابها انفتاحُ مصر الحضارى والإنسانى، وتوافد الكثيرين عليها «مهاجرين» لأغراض شتى، ومن بين كل الهجرات كانت هجرة الشوام أهمها وأكثرها تأثيرًا حيث بثت دماءً جديدة فى شرايين الثقافة والاقتصاد والاجتماع المصرى، وهو تأثير ما زلنا نلاحظ بقاياه وآثاره الجميلة حتى وقتنا هذا.
يستعرض الكتاب تفاصيل هذه الهجرة، جغرافيا وتاريخيا، ويثبت أن الاضطهاد الدينى لم يكن وحده هو سبب هذه الهجرات، وعمليات النزوح الواسعة التى جرت من الشام إلى مصر، وخصوصًا فى عهد أحمد باشا الجزار، ولكن نهضة محمد على بالأساس هى التى جذبت آلاف الشوام للحاجة إلى مترجمين، من وإلى الإنجليزية والفرنسية، كما اجتذبت آلاف التجار وأصحاب الصناعات المختلفة.
كانت نقطة الجذب والاستقرار الأولى للشوام هى مدينة دمياط، ومنها انطلقت إلى كل المدن المصرية تقريبا بما فيها مدن الصعيد، بل إن بعض الشوام ذهبوا واستقروا فى الخرطوم التى أسسها محمد على لتكون عاصمة للسودان.
عومل الشوام نفس معاملة المصريين، بل إن محمد على بعث بعضهم فى بعثاته إلى فرنسا، وزادت الهجرات مع تحالف محمد على مع الأمير بشير الشهابى، ووصل عدد الشوام فى مصر فى فترة من الفترات إلى 100 ألف مهاجر، تنوعت أنشطتهم من التجارة والصناعة إلى الأدب والفن والصناعة.
(3)
تدريجيّا، ومثلما فعلت مع كل الوافدين، قامت مصر بتمصير هؤلاء المهاجرين حتى أصبحت الأجيال الثالثة والرابعة منهم من المصريين تماما كما هو الحال مع أسرة «الرافعى» القادمة من طرابلس (منهم المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، والأديب مصطفى صادق الرافعى)، وأسرة شلهوب (ومنهم عمر الشريف)، وأسرة شاهين (ومنها يوسف شاهين)، وأسرة صيدناوى الشهيرة أصحاب المتاجر المعروفة، وأسرة السيدة فاطمة اليوسف (ابنها الروائى والصحفى إحسان عبد القدوس)، وهناك من ولد وعاش فى مصر ثم عاد إلى لبنان مثل بيير الجميل الذى ولد وعاش بمدينة المنصورة عام 1905، ثم عاد إلى لبنان ليؤسس حزب الكتائب، وولداه بشير وأمين كانا من رؤساء لبنان.
ينطلق كتاب «الأسراب الشامية» من الحقائق التاريخية السابقة، ويؤكدها فى الوقت ذاته، ويقدم الكاتب اللبنانى القدير فارس يواكيم توثيقا وتأريخا رائعا وشاملا للهجرات الشامية إلى مصر؛ موضحًا أسبابها وتحركاتها الجغرافية والمهنية والطبقية وآثارها على مصر حتى ستينيات القرن العشرين.
يؤكد على حضانة مصر لكل من قصدها وأتى إليها، ويقول مؤلف الكتاب إنه لولا احتضان مصر لكل من وفد إليها من الشام أو غير الشام، ما تمكن هؤلاء جميعا من أداء الأدوار العظيمة التى قاموا بها فى الاقتصاد والتجارة والنهضة الثقافية الكبرى التى شهدتها مصر آنذاك. مصر الكوزموبوليتانية العربية استوعبت كل المبدعين والتجار والصحفيين فى أزمنة النهضة، واكتسبت قوتها من هذا التنوع الرائع..
(وللحديث بقية)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved