إلى الدعاة
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 11 فبراير 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث دينارا ولا درهما ولكنه ورث شريعة تبلغ للناس وعلما ينشر بين الناس وحكمة تذاع بين الخلائق.
وعلى كل من يدعو للإسلام أن يعرف أنه يقف على منبر رسول الله (ص) ويبلغ رسالة الحق إلى الخلق، وعليه ألا يدنس هذا المكان الشريف بشهوة أو شبهة، وعليه ألا يفرح فى شبابه بشهوة أو فى شيخوخته بشبهة تخالف هدى النبى (ص) حتى وإن وافقه فى ذلك كثير من الناس، وعليه أن يقدم فى ذلك رضا الله على رضا الناس.
ليست الدعوة إلى الله هى مجرد سرد لأدلة الأحكام، ولا هى مجادلة بينك وبين الناس أو منازلة كلامية بينك وبينهم، ولا هى هزيمة الناس بالحجة والبيان وإسكاتهم، ولا هى قهرهم بالحجة والدليل، ولكنها أعظم من ذلك وأكبر، وليست من ذلك فى شىء، بل هى الصدع بالحق والرحمة بالخلق، وهى تحبيب الخلق فى الحق، وسوقهم بلطف ورفق إلى الله، وحسن ترغيبهم فى الدين، وتليين القلوب لقبول الحق، أما المراء والجدال فهو مبدأ كل شر وهو الذى يوغر الصدور ويهيج العداوات ويحض على عدم قبول الحق.
على الدعاة أن يعلموا أن قلوب العباد بيد الله لا بأيديهم، وأنهم مجرد أسباب للهداية والصلاح، فقد يهدى الله بالسبب وبغير السبب وبعكس السبب، فقد كفر أبو لهب وهو عم الرسول (ص) وآمن سلمان الفارسى وهو من بلاد فارس التى لم يطأها الرسول أبدا، وكفر أبو طالب وهو أعلم الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم وبدعوته، وأسلم صهيب الرومى وكأنه جاء من أقصى البلاد من أجل الإسلام، وكفر أمية بن أبى الصلت وهو الذى كان ينتظر الوحى والرسالة لتتنزل عليه، وأسلم بلال الحبشى.
فعلى الدعاة أن يعيشوا بقلوبهم وأفئدتهم مع المعنى الرائع: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وما دعوت إذ دعوت ولكن الله هدى، وما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله أنار القلوب».
على الدعاة إلى الله أن يتدبروا الحكمة العظيمة حينما يقال لهم: «قبل أن تحدثنى عن الله دعنى أرى الله فيك، أما أن تحدثنى عن الله وأرى فيك أطماع الدنيا كلها، أو تحدثنى عن الدين وأرى فيك نفوس الشياطين أو تحدثنى عن الآخرة وأرى فيك عشق الدنيا وملذاتها حتى المحرمة منها».
الداعية الحقيقى هو الذى يبشر ولا ينفر، ويجمع ولا يفرق، وييسر ولا يعسر، ويجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعا صحيحا، وبين الصدع بالحق وعفة اللسان، وبين الصدع بالحق والرحمة بالخلق، ويخاطب العقل والعاطفة معا، ويميز بين العقائدى والشرعى الثابت وبين السياسى والحزبى المتغير، ويفرق بين ما جاء به الوحى وبين ما هو من أمور الدنيا أو العادات، ويميز بين مساحات عمل النقل الصحيح ومساحات عمل العقل الذكى، ويجمع بين الوطنية والإسلام جمعا صحيحا.
على الدعاة أن يحرصوا على عدم تجريح الأشخاص والهيئات فى دعوتهم، وأن يحرصوا على النقد الذى يبنى ولا يهدم، وأن يعترفوا بإيجابيات الآخرين قبل أن يذكروا سلبياتهم، وأن يذكروا حسنات الآخرين كمدخل حسن إلى النفس البشرية لقبول نصحهم فيما سوى ذلك.
الداعية والعالم والمفتى يشتركون فى مهمة واحدة وهى التوقيع نيابة عن رب العالمين، فهم يوقعون بإمضائهم بدلا من رب العالمين، وبدلا من رسول الله (ص)، وعلى كل هؤلاء أن يدركوا عظم المسئولية وحجم الأمانة، وأن يحرصوا دوما على طهارة ما يوقعونه من كل شهوة أو شبهة وهوى أو نزوة أو رغبة فى سلطة أو تفحش فى قول.
أعظم الدعاة أثرا هو الذى يجعل الناس ترى الله فى أعماله وتصرفاته ورحمته وتسامحه قبل أن يقول لهم: قال الله كذا، أو قال الرسول (ص) كذا، إنها الدعوة الصامتة التى لا نحسنها، ونفضل عليها دعوة الميكرفون الزاعقة، والكلمات قد تنسى أما الأخلاق الكريمة والمواقف العظيمة فلا تمحى أبدا.
إذا أراد الدعاة أن يدخلوا ميدان السياسة فلا يجوز لهم اصطحاب القداسة معهم.
لو أن «ثقيفا» نصرت الرسول (ص) وآوته بدلا من أهل المدينة لتحول كل خير لحق بالمدينة إلى الطائف، ولكن قصر نظر وغلظة قلب وجفوة طبع ثقيف حرمتها من هذا الخير، وطيبة قلب ورقة طبع وسلامة نية الأنصار هى التى جلبت الخير والرحمة وقدوم ملايين المسلمين كل عام إلى المدينة ببركة هذا النبى العظيم محمد (ص)، إنه درس فى الرقة والنصرة.
الداعية الحقيقى الذى تذكرك بالله رؤيته ويقربك إلى الله حديثه ويدعوك إلى التسامح والصفح منطقه، فإذا حدث العكس فهناك عطب ما، إما أن يكون فيك، أو فيه.
على كل داعية يجد نفسه دائم التعثر والفشل، ويجد قلوب الصالحين وأفئدتهم تنصرف عنه ولا تحبه فعليه أن يفتش فى نفسه جيدا، فمن صفى صُفىَّ له، ومن كدر كُدَّر عليه، ومن أحسن فى ليلة كوفئ فى نهاره، وإنما يتعثر من كان فى قلبه جرح من شهوة أو شبهة.
عندما اتصل جدب الصحراء فى الجزيرة العربية بوحى السماء تحول إلى خصب ونماء، وحينما غاب هدى السماء عن بلاد الأنهار أصابها الجدب والفقر والصراع السياسى والاستدانة بالربا وغياب الصفح والعفو وحلول الانتقام وضياع الإيثار وشيوع الأثرة.
المشكلة الكبرى عند المسلمين الآن هو الخلط بين الأصول والفروع، والغايات والوسائل، والثوابت والمتغيرات، إننا ننسى دائما أننا أمام دين عظيم يزن بالقسطاس المستقيم.