أسباب للفرح .. وأخرى للقلق
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 11 مارس 2011 - 9:28 ص
بتوقيت القاهرة
إذا أردت أن أعبر للقارئ عما أشعر به بالضبط إزاء ما جرى (ومازال يجرى) فى مصر منذ 25 يناير، أقول إنى لازالت فرحا جدا، ولكنى أيضا قلق.
أما الفرح فأسبابه واضحة ومعروفة: ما رأيناه فجأة من جيل جديد من الشباب المصرى، يجمع بين الولاء للوطن وبين الحيوية والذكاء، والاستعداد للتضحية، كما يجمع بين مهارات وأفكار جديدة اكتسبها من انفتاحه على العالم، وبين ثقته بتقاليده وميراثه الثقافى.
كذلك من المفرح جدا اشتراك المرأة والفتاة المصرية فى عمل وطنى يتسم بالجرأة، ويفصح عن ذكاء وحيوية واستعداد للتضحية لا يقل أى منها عما أبداه الشبان الذكور.
كل هذا كان بديعا، ولايزال يبعث السرور فى النفس كلما تذكرته. كذلك كانت التطورات السياسية مبهجة جدا، وكأن كابوسا ثقيلا قد انزاح فجأة عن صدورنا.
تنحية الجالسين على قمة النظام، وتخلصنا (إلى غير رجعة) من تلك الحملة الشيطانية لإحلال الابن محل أبيه، وخروج وزراء ومسئولين مكروهين إلى غير رجعة أيضا، ومجىء وزراء ومسئولين جدد مشهورين بالوطنية والنزاهة، وتوقعات بالمزيد من إحلال الوطنيين محل مسئولين فاسدين فى مختلف المجالات: فى الإعلام والتعليم والثقافة والاقتصاد.. الخ.
كيف لا يشعر المرء بالابتهاج لكل هذا، بعد عشرات السنين من الغم والإحباط؟ وكيف لا يبعث كل هذا فى نفوسنا التفاؤل بمستقبل مشرق لهذا الوطن الذى طال انتظاره لخبر واحد مفرح؟
ولكن القلق موجود أيضا..
فاجأتنى إحدى المذيعات فى أحد البرامج التليفزيونية بتعبير لم أكن صادفته من قبل فى وصف ما حدث فى ثورة يناير، وهو «انفصال الملكية عن الإدارة». نحن نتكلم فى الاقتصاد عن انفصال ملكية الشركة المساهمة (وهى لحملة الأسهم) عن إدارة الشركة التى يمارسها أشخاص قد لا يملكون سهما واحدا فى الشركة التى يقومون بإدارتها. كانت المذيعة تقصد بحق أن الذين قاموا بالثورة وأوجدوها من العدم (ومن ثم يستحقون أن يوصفوا بملاكها) ليسوا هم من يتخذ القرارات الحاسمة فى تسيير الأمور، فليسوا هم الذين يختارون رئيس الحكومة ولا الوزراء، ولا يتخذون القرارات الأساسية المتعلقة بمصير الوطن بعد الثورة.
العادة فى الثورات أن من يقومون بالثورة هم الذين يقومون باتخاذ القرارات الحاسمة وتسيير أمور البلاد بعد نجاحها. كان هذا هو حال الثورات العالمية الشهيرة، كالثورتين الفرنسية والروسية، وكذلك حال الثورتين المصريتين السابقتين، ثورة 1919 وثورة 1952. فما الذى يمكن أن يترتب على هذا الانفصال بين «الملكية» و«الإدارة» فى حالتنا الراهنة؟ هناك بهذا الصدد ما يطمئن من ناحية، وما يثير القلق من ناحية أخرى.
●●●
من المطمئن أن الجيش (الذى تقوم رئاسته الآن بمهمة الإدارة) استجاب لرغبات الثائرين، ليس فقط فى حمايتهم من بطش النظام، ومن ثم مكنهم من الاستمرار فى الضغط حتى سقط رئيس النظام وكبار معاونيه، ثم فى تغيير بعض الوزراء الذين بقوا فترة فى مواقعهم حتى بعد تنحية الرئيس المخلوع، ثم مرة أخرى فى تغيير رئيس الوزراء الذى كان قد حلف اليمين أمام ذلك الرئيس، وإحلال رئيس جديد للوزراء يتمتع برضا الثوار واحترامهم. بعد هذا أصبح من الممكن للثوار أن يهدأوا. ولكن لابد أن نلاحظ أن أصحاب الثورة مازالوا بعيدين عن مركز «الإدارة» أو مركز صنع القرار.
يثور التساؤل مثلا عن سبب التأخر فى حماية مراكز أمن الدولة من عملية اتلاف وحرق الملفات حتى تدخل الجمهور لحمايتها.
وعن سبب التأخر حتى الآن فى الاستغناء عن بعض الشخصيات التى مازالت تحتل مراكز مهمة ومؤثرة للغاية، بعضها فى داخل رئاسة الجمهورية نفسها، وبعضها فى داخل الجهاز الحكومى ووسائل الإعلام والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية والثقافية..الخ
من الممكن الاعتذار عن ذلك بالقول بأن المدة التى انقضت على تنحى الرئىس السابق مازالت قصيرة، ولا يمكن عمل كل شىء فى يوم وليلة.
ولكن من بين هذه المراكز والمواقع التى ذكرتها ما يستوجب قرارات من النوع الذى يمكن (بل ولابد) أن يتخذ بين يوم وليلة، وليست من النوع الذى يحتاج إلى شهور أو أسابيع.
من ناحية أخرى، قد يمكن الاعتذار عن ذلك بأن من قاموا بالثورة ليس لهم زعماء يتكلمون باسمهم، ومن ثم فليس من السهل معرفة مطالبهم ورغباتهم بوضوح أو الجزم بها، وقد حاول المجلس الأعلى للقوات المسلحة، على أى حال، بعد أن تولى الحكم، أن يتعرف على هذه المطالب والرغبات، بالالتقاء ببعض ممثلى الشباب الثائر، أو بالجلوس مع بعض أصحاب الرأى القريبين منهم.
وقد يقال أيضا أن هذه الثورة قام بها أفراد أو تجمعات لا ينتسبون إلى أحزاب أو أيديولوجيات معروفة، ولم يتجمعوا إلا حول شعارات عامة غير محددة، كالمطالبة بالخبز والحرية والكرامة، وهذا يجعل من الصعب تخمين ما يرضيهم وما لا يرضيهم، وتحديد الشخصيات التى يقبلونها أو يرفضونها.
وكلا الاعتذارين مفهومان تماما، ولكن كان هناك من سبل التعامل من هاتين المشكلتين والتغلب على ما تخلقانه من صعوبات، مما لم يحدث بالفعل. لقد نادى الكثيرون بتكوين مجلس رئاسى يقوم باتخاذ القرارات الأساسية والعاجلة بالنيابة عن هؤلاء الثوار الذين لا يتكلم باسمهم زعيم معروف ولا ينضمون إلى حزب له برنامج سياسى واضح. هذا المجلس الرئاسى يمكن أن يضم مدنيين وعسكريين، ويمكن إجراء استفتاء على أسماء أعضائه، كما أنه ليس من الصعب اختيار أسماء تتمتع بقبول عام وشعبية واسعة، هى التى تعرض للاستفتاء.
إذا تم تكوين هذا المجلس الرئاسى لا أرى موجبا لاختصار مدته، بل لابد أن يترك لتأدية بعض المهام الحاسمة والعاجلة، منها إزاحة بعض المسئولين الذين لا يتمتعون بالقبول العام عن مراكزهم، ومازالوا مع ذلك يحتلون مراكز مهمة ومؤثرة، وتعيين آخرين يتمتعون بهذا القبول، فضلا عن تكوين مجالس أو لجان تبدأ فورا فى العمل على خطط عاجلة لإصلاح الاقتصاد والتعليم والإعلام وأسس السياسة الخارجية..الخ، وان احتاجت الخطط الكاملة إلى مدة أطول.
إنى لا أرى وجه الحاجة إلى التعجل فى إجراء انتخابات برلمانية أو رئاسية. إن أى انتخابات لا يمكن أن تسفر عن النتائج المرجوة إلا إذا توافرت بعض الشروط الأساسية التى لا تتوافر للأسف الآن، ولابد أن نعمل أولا على توافرها. ما أحوجنا الآن إلى فترة من التقاط الأنفاس بعد فترة طويلة من العذاب وانهاك القوى. ولابد فى رأيى من أن تؤجل الانتخابات إلى ما بعد إجراء بعض التصحيحات الجوهرية فى المناخ الاجتماعى العام.
لابد أولا من استعادة الأمن فى الشارع، وإقامة علاقة طبيعية بين الناس والشرطة، إذ لا يمكن أن تجرى انتخابات طبيعية فى ظل خوف يسيطر على الناس مما يمكن أن يفعله بهم رجال الشرطة، أو مما قد يحدث لهم فى غياب الشرطة. هذا الشرط بديهى، ونحن على أى حال فى حاجة عاجلة إليه سواء جرت انتخابات أو لم تجر.
لابد ثانيا من استعادة هيبة القضاء واطمئنان الناس إلى أن هناك من سوف ينصفهم (وبالسرعة المعقولة) إزاء أى ظلم يتعرضون له، سواء فى الانتخابات أو فى غيرها، ودون تكاليف باهظة.
لابد ثالثا من فترة كافية من اتاحة حرية التعبير وتبادل الأفكار وتكوين الأحزاب. لقد خضع المصريون لأكثر من ثلاثين عاما من القيود الفاشية على حرية التعبير وابداء الرأى، وعلى حرية تكوين الأحزاب، وتعرضوا خلالها لضوضاء مستمرة من الأكاذيب التى تروج لمن لا يستحق، وتسمح لمحترفى التضليل والكذب باحتكار وسائل الإعلام الأساسية وتمنع غيرهم من الوصول إليها. فى وسط هذه الضوضاء لم تتح الفرصة لظهور زعامات حقيقية، رغم امتلاء البلاد بمن يستحق الظهور والجدير بالزعامة.
●●●
كم كانت المهمة سهلة أمام ثوار يوليو 1952 بالمقارنة بمهمة ثوار يناير 2011. فى الحالتين كان من بين أهداف الثورة الأساسية تحقيق ديمقراطية سليمة.
ولكن عندما قام الضباط الأحرار بثورتهم فى 23 يوليو، لم تكن الفوضى تعم الشارع المصرى بسبب غياب الشرطة، بل انضم رجال الشرطة على الفور إلى الجيش، وبحماس شديد، لخدمة الثورة وحماية المواطنين. لم يكن القضاء المصرى قد بدأ ينخر فيه السوس، كما بدأ ينخر فيه خلال الثلاثين عاما الماضية، ولم يكن من المتاح للنظام الملكى مثلما كان متاحا لعهد مبارك من أساليب التضليل والكذب، لا من حيث حجم الأموال المستخدمة ولا من حيث وسائل الدعاية والإعلام.
كذلك كانت الحياة الحزبية فى ظل الملكية، مع كل فسادها، أقل فسادا بكثير مما كان قبل ثورة يناير. كان أكبر حزب فى مصر قبيل يوليو 1952 (حزب الوفد) قد بدأ يعتريه الضعف ويتعرض لهجوم مستمر من رجال القصر الملكى وصحفه، ولكن حزب الوفد لم يعقد أى هدنة مع الملك، ولا رضى رجاله أن يبيعوا ضمائرهم بثمن بخس للنظام الحاكم (بل ولا رضى بذلك رؤساء أى حزب آخر فى مصر) كما رضى كثير من رجال الأحزاب المسماة بأحزاب المعارضة فى السنوات المؤدية لثورة يناير 2011.
كان أهم عائق يواجه أصحاب ثورة 1952، فى سبيل إقامة نظام ديمقراطى سليم فى مصر هو النظام الاقطاعى (أو شبه الاقطاعى) ، إذ كانت قدرة ملاك الأراضى على تعبئة الناخبين وشراء الأصوات كفيلة بإنتاج برلمان لا يعبر عن مصالح الغالبية من المصريين الفقراء، بل يعبر عن مصالح ملاك الأراضى المتحالفين مع الإنجليز.
لم يعد الاقطاع هو المانع الأساسى الآن لاقامة نظام ديمقراطى، بل أصبح العائق الأساسى هو عموم الفساد فى الإدارة الحكومية والمحليات، واستغلال سلطة الدولة نفسها وأموالها فى شراء الذمم والأصوات، وهو ما سمح بتبعية النظام للولايات المتحدة وإسرائيل.
كان الضباط الأحرار يدركون بكل وضوح فى يوليو 1952، أن الخطوة الأولى نحو إقامة ديمقراطية حقيقية وكسر التبعية للإنجليز، هى ضرب الاقطاع، وكان هذا هو أول ما فعلوه، فأصدروا قانون الإصلاح الزراعى فى سبتمبر 1952، أى قبل أقل من شهرين من قيام الثورة. والآن يجب أن يكون واضحا لنا، بنفس الدرجة، أن أملنا فى تحقيق ديمقراطية حقيقية، والخروج من التبعية للولايات المتحدة وإسرائيل، مرهون بضرب الفساد المستشرى فى كل ركن من أركان البلاد: فى الحياة الحزبية والاقتصادية، فى الإعلام والثقافة، فى نظام التعليم.. الخ.
وكما تعقبت ثورة يوليو باشوات وباكوات العصر الملكى وقلمت أظافرهم، لابد أن تتعقب ثورة يناير باشوات عصر مبارك فتستأصل نفوذهم المستمد من تزاوج المال والسلطة.
وفى سبيل التخلص من الفساد، أى من تزاوج المال والسلطة، نحن مستعدون بطيب خاطر لقبول تأجيل الانتخابات، سواء كانت برلمانية أو رئاسية، لحين إشعار آخر.