صورة تحكى عن عطلة فى طنجة
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 11 مارس 2025 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
أفرغت المظروف الأصفر على سطح مكتبى. خرجت منه صور لمناسبات متفرقة. واحدة من الصور نجحت فى لفت انتباهى. بدت لى أنها تتعمد أن تتباهى على رفاقها من الصور بنجاحها رغم عيب فيها أو ربما لعيب فيها. أما العيب فكان «البهتان» الذى أصاب ألوانها. بهتان حفزها لتكون الأولى لتقع عيناى عليها قبل أن تقعا على غيرها من الصور خلال هذه المساحة من الوقت التى قد تكون ضيقة وفى ظرف منافسة حرة ظالمة مع صور أوضح وأقل بهتانا، منافسة مصيرها محتوم لغير صالحها.
• • •
عدت أدقق النظر فيها فإذا بأصابعى تمتد إليها بعد التدقيق تسحبها برفق وتخلصها وهى الضعيفة من زحمة كادت تخنقها وبظهر يدى أزيح بقية الصور التى تناثرت من تحتها ومن حولها إلى ركن بعيد من أركان سطح المكتب، وإذا بى أنهض من مقعدى وأمشى نحو مكان معلوم وأعود وفى يدى مشروبى المفضل لدى ساعات الإثارة وعند الحاجة إلى التركيز أضعه إلى جانب الصورة وأعود إلى التدقيق والتأمل وقراءة ما ظهر من تفاصيلها. الغريب أن ما خفى منها وجدته حيا فى ذاكرتى، لم تغيبه حقيقة أن الصورة جرى التقاطها قبل حوالى خمسة وأربعين سنة فى أحد المطاعم التقليدية فى زنقة من زنقات طنجة الشهيرة.
• • •
تصدرنا الصورة أنا وزوجتى وبيننا داليا أصغر أولادى وعلى يميننا ويسارنا عائلات مثل عائلتى، عائلة من هذه العائلات كانت للمضيف، صاحب ومدير أكبر شركات التدريب على فنون وقواعد الإدارة الرشيدة، شركة فلسطينية التمويل والإدارة ومقرها القاهرة وتخرج من دوراتها قادة عديدون من مديرى ورؤساء شركات القطاع العام فى مصر ودول عربية أخرى. اعتمدت فكرة هذه الدورات مبدأ أن تعقد فى أجواء عائلية تخلو من الرسميات والقيود، أجواء هى الأقرب إلى أجواء العطلات منها إلى أجواء العمل. رشحتنى لدورة طنجة الأمانة العامة للجامعة العربية أو لعله كان نبيل شعث مدير الشركة أو كان محمد الفرا رئيس إدارة فلسطين بعد لقاء عمل مطول حضرته معهما بصفتى نائبا لهذا الأخير.
• • •
الآن، وأنا أتأمل فى الصورة ومن حولى أصداء جلبة وأخطار عظمى تحيط بسمعة وكيان فلسطين، يهمنى جدا أن أشيد بما أضافته هذه الدورة التدريبية، الفلسطينية الإدارة، إلى تاريخى وسمعتى فى مختلف جوانب علوم الإدارة العليا، وبما أضافته من سعادة إلى زوجتى وابنتى وأنا نفسى بعد سنوات من هجرة إلى تونس لم تجتمع خلالها هذه العائلة إلا قليلا، هجرة لها فى حد ذاتها قصتها وحكاياتها.
• • •
زرت المغرب مرارا ولم تكن طنجة فى أى مرة على الطريق نحو هدف أو هدفا فى حد ذاته. أعرفها من أفلام السينما وروايات الجاسوسية. عشت سنوات مراهقة منشغلا أكثر مما يجب بأفلام تحكى قصص الحرب العالمية وبالسياسة والغرام مختلطين أو متداخلين. ما زلت إلى يومنا هذا ما إن يأتى ذكر كازابلانكا مثلا إلا وأجد نفسى أدندن فى صمت أغنية غناها فى الفيلم الشهير «كازابلانكا» المغنى الأسود دولى ويلسون وعنوانها «أما والزمن يمر» وتحكى قصة حب بين همفرى بوجارت وإنجريد برجمان فى قلب مدينة كانت تعج بالجواسيس ومؤامراتهم خلال الحرب العالمية.
• • •
بالفعل كنت كلما زرت الدار البيضاء أتخيلها فى وقت الحرب. أسأل عن شوارعها القديمة وأزقتها الأقدم وملاهيها الليلية. أسأل كبار السن عما سمعوه من آبائهم أو أجدادهم عن سنوات الحرب، ومن فرط اهتمامى بالمدينة تصور كثيرون من رفاق العمل والأنشطة الترفيهية أننى واقع فى حبها أو فى حب ساكنة أو مقيمة فيها. أحكى لهم حكايتى وأنا أتمشى مع صديق نزل من موقع عمله بسفارتنا فى الرباط لزيارتى فى الدار البيضاء، كنا نتكلم بصوت غير خفيض، عن مفارقات فى اجتماعات القمة العربية التى انعقدت فى هذه المدينة، فإذا بفتاتين فى سن الشباب تصادف مرورهما على مقربة منا تعلقان على لهجتنا، قالت إحداهما عن لهجتنا «يتكلمون سيما»، صححتها الأخرى بقولها «إنها اللهجة المصرية».
• • •
حكاياتى مع الدار البيضاء كثيرة لا يمكن، أو لا يجوز، اختصارها فى سطور قليلة. وقعت كذلك فى حب طنجة، ولم أكتب هنا سوى سطور قليلة عن موضوع لا يتعلق بما أردت وصفه عن شوارع نصف المشوار إليها سلالم صاعدة أو هابطة، أو عن مطاعم صغيرة تسلب لب الزائر كادت، بقليل المبالغة، تقتصر على مائدتين ومطبخ وعجوز أنيق يطبخ ويخدم وينظف ويدردش ويحاسب، كله فى آن واحد.
• • •
مطاعم أخرى مثل كثير غيرها زرتها فى فاس والرباط والدار البيضاء، يجلس الزبائن قرب الأرض حول مائدة مستديرة يتوسطها وعاء من الصينى أو الفخار الفاخر ممتلئ بالكسكس ومزدان بالخضر المسلوقة أو المشوية ولحم الضأن، عنها جميعا تصدر رائحة لم أشم فى مثل جاذبيتها ورقيها وقدرتها على فتح الشهية رائحة أكلة أخرى فى مطاعم دول زرتها أو أقمت فيها فى أى مشرق من الثلاث، الأدنى والأوسط والأقصى.
• • •
تفاديت الكتابة عن السوق العربية فى كل هذه المدن وبخاصة الدار البيضاء، وعن أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين سوق الحميدية بدمشق وحى العطارين بقاهرة المعز. لنا عودة.