البريد المصرى والشمول المالى
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 11 أبريل 2022 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
تصدر البريد المصرى مواقع التواصل الاجتماعى بفعل الحملة الإعلانية التى أطلقها عبر الفضائيات، لتكون حاضرة على موائد المشاهدين خلال شهر رمضان. السبب فى اهتمام مواقع التواصل بأنباء البريد المصرى ليس نجاح المحتوى الإعلانى بقدر ما كان ما أثارته الحملة الإعلانية من جدل حول تكلفتها الباهظة، وما تردد من حصول نجم الحملة وحده على ما يزيد على 15 مليون جنيه نظير قيامه بممارسة بعض الألعاب الرياضية أمام الشاشة.
الحس الفكاهى للمواطن المصرى كان حاضرا عند التعليق على إعلانات البريد المصرى بوصفها بالحملة الناجحة التى قامت بها الهيئة للدعاية لعمرو دياب. بعضهم قارن بين لقطات الإعلان ولقطات أخرى لنجم الكرة محمد صلاح وهو يعلن لمؤسسة عالمية منافسة للبريد المصرى، فى إشارة واضحة على اقتباس إعلان البريد المصرى من إعلان تلك المؤسسة. والبعض كان نقده أكثر مهنية فأخذ يحلل مشاهد الإعلان بنظرة متخصصة، مثبتا أنه يجسد أخطاء لا تغتفر فى عدم نجاح الرسالة المقصود إيصالها للجمهور. أما البعض الآخر فقد اتخذ موقفا أكثر حدة بإقامة دعوى قضائية ضد هيئة البريد، كونها (وفقا لصاحب الدعوى) أهدرت المال العام بالإنفاق على تلك الحملة... أو هذا ما تداولته الأنباء.
أحسب أن عددا من المآخذ على الحملة الإعلانية للبريد المصرى قد تم تلافيه بالفعل فى الأيام التالية على اشتعال فتيل الأزمة، ذلك أن الإعلانات قد بدأت فى تسليط الضوء على بعض المنتجات المالية والخدمات التى يقدمها البريد المصرى للمستهلكين، وتراجعت صورة وسيرة وأنشطة بطل الإعلان قليلا، مفسحة مجالا للجهة المعلنة كى تسوق منتجاتها. على أية حال هناك مدرسة فى الدعاية تقول بأن ليس فى الوجود ما يسمى دعاية سيئة، أى أن كل ما يتم تناوله عنك فى الإعلام يساعد فى حجز موقع لك بين المنافسين. بالطبع أجد نفسى متحفظا على ذلك الرأى من باب أن الصورة التى تقوم برسمها عن مؤسستك ومنتجك يجب أن تساعد على تحول المستهلك إليك، أو زيادة الاعتماد عليك، لكن المؤكد أن تلك الصورة مازالت رهنا بأداء المؤسسة بغض النظر عن نجاح أو فشل الإعلان عن التعبير عن ذلك الأداء. هنا كان من الضرورى أن نشحذ الأقلام للكتابة عن البريد المصرى من زاوية أحسبها أهم كثيرا من تفاصيل إعلانات شهر رمضان المبارك.
•••
إنه من المثير أن تجد اسم «البريد المصرى» على عظم مدلوله وعراقة رجع صداه، لا يأتى لك عبر أشهر محركات البحث على شبكة الانترنت برابط بوابة إلكترونية معتبرة للبريد المصرى! عليك أن تبحث بين عدد من المواقع المعلوماتية ومواقع التواصل الاجتماعى عن ذلك الرابط، الذى إن تمكنت من الوصول إليه فربما لن يسعفك الحظ فى فتح موقعه الإلكترونى شديد البطء فى التحميل! تلك هى واجهة البريد المصرى التى لابد أن تكون جاهزة لاستقبال عدد هائل من الزوار حال نجاح الحملة الإعلانية، فإذا أخفق المستهلك الإلكترونى دون تفقد محل المعلن، فلا أظنه سيأبه لتكاليف الإعلان أو محتواه أو أى شىء آخر.
ثم نأتى بعد ذلك إلى قائمة خدمات البريد المصرى، وهى قائمة غنية متنوعة تتراوح بين خدمات بريدية تقليدية وأخرى متطورة وإلكترونية مواكبة للتطور التقنى والتحول الرقمى، وثالثة مالية تخاطب المدخر والمستثمر الفرد. وعلى رأس الخدمات البريدية تأتى خدمة البريد السريع، كونها لم ولن يتم إحلالها كليا بالصيغ الرقمية المنتشرة عالميا، ذلك لأن كثيرا من المعاملات الرسمية يجب أن تكون وثائقها فى صورة مادية ملموسة. وقد كان لى تجربة حديثة مع البريد السريع المصرى، لكنها لم تكن تجربة موفقة، وإذ أنقل بعض تفاصيلها إلى القارئ الكريم فلا يتحقق من ذلك أى هدف شخصى، ذلك أنى قد تم لى ما أردت بتدخل شخصى مشكور من رئيس الهيئة، بيد أن المستهلك العادى لن يتمكن من الوصول إلى ذات الميزة، وإن حدث ذلك بشكل متكرر فلن تتحقق كفاءة التشغيل والأداء بوجه عام.
بداية كانت تكلفة البريد المصرى فى أعلى شرائح خدمة البريد السريع (أسرعها وصولا) أقل كثيرا من تكلفة أى خدمة منافسة، كان ذلك التمايز السعرى مهما لجذب انتباه المستهلك، لكنه يثير الشك فى سبب تلك الفجوة السعرية، ويثير المخاوف من كون الشحنة التى يتم نقلها ربما لا تجد طريقها إلى مقصدها. هنا يجب أن يكون التأمين على شحنات البريد السريع مجزيا وسريع السداد متى تعثرت الشحنة أو لم تصل، لكن مكتب البريد لم يمنحنى ذلك الخيار فعولت على أن شحنتى إلى دولة أوروبية قريبة وهى اليونان، وأن احتمالات الفقد أو التلف محدودة نظرا لكونها مجموعة أوراق بسيطة يمكن إعادة إصدارها، كذلك استخدمت حس مدير المخاطر فى تقدير أسوأ الاحتمالات ووجدتها ضمن ذائقتى للمخاطر risk appetite فخضت التجربة أو قل خضت المخاطرة.
كانت خيارات التعريفة متفاوتة، فاخترت أغلاها ثمنا، فقالوا تصل شحنتك فى ثلاثة أيام... بعد مرور أربعة أيام تواصل معى مكتب البريد بمدينة السادس من أكتوبر وأرسل لى رقما لتعقب الشحنة يتبع شركة أجنبية منافسة! بتتبع الشحنة على مدى أيام أخرى تالية، وجدتها لا تغادر باريس منذ عشرة أيام تقريبا!!!... اتصلت برقم الشكاوى بالبريد المصرى بعد مرور أكثر من أسبوعين على إرسال الشحنة المنكوبة، فقالوا إنها لم تغادر مكتب بريد فرع رمسيس!!! وباتصال مع مسئول العمليات أخبرنى شيئا عجبا، فقد قال لى ما مفاده أن العاملين فى قسم الشكاوى لا يعرفون شيئا، وأنهم يتغيرون باستمرار! كان ذلك بمثابة إذن لى بضرورة التصعيد إلى رئيس الهيئة، والذى قام بحل المشكلة فى يوم واحد! عندئذ يجب أن نتوقف عند عدد من المشكلات: أولا العمل فى مجال البريد يجب أن يتم وفقا لأعلى معايير وضوابط إدارة المخاطر المؤسسية، خصوصا إذا كانت احتمالات الإخفاق كبيرة وعبر يومية، وأن إدارة المخاطر بالاستعداد لكل الاحتمالات أفضل ألف مرة من إدارة الأزمة بانتظار وقوع الضرر على النحو الذى يستعدى تدخل رأس المؤسسة للحل... ثانيا: يجب أن تتمتع كل أقسام وقطاعات الهيئة بالتناغم والتنسيق، وأن يكون جميع الموظفين على قدر عال من التأهيل والتدريب على التعامل مع الجمهور والتصرف فى مختلف المواقف وفقا لمدونة أداء معتمدة وليس باجتهاد شخصى... ثالثا: يجب تطويع التكنولوجيا فى التعامل مع الشحنات منذ خروجها من يد المستهلك وحتى وصولها إلى مقاصدها بدرجة من الدقة لا تقبل تدخل العنصر البشرى إلا فى أضيق الحدود، وبمستويات متعددة من المراجعة والتدقيق فى مختلف المراحل... رابعا: يجب أن يفهم العاملون فى البريد المصرى أنه ليس مجرد علامة تجارية مسجلة، بل هو فى بلادنا يحمل رمزا وطنيا ويعكس فى كثير من مظاهره وجه الدولة، تماما كما تفعل شركات الطيران المملوكة للدولة والبنوك الحكومية وغيرها من هيئات ومؤسسات عامة.
•••
وقد خاضت الدول تجارب مختلفة مع مؤسسات البريد التى تملكها. منهم من قام بتخصيصها، ومنهم من قام بتقسيم خدماتها وفصل الأنشطة المالية عن خدمات البريد فى مصارف متخصصة للتعامل مع الأفراد والمشروعات متناهية الصغر. أما مصر فقد اختارت النموذج الذى حافظت فيه الدولة على ملكية هيئة البريد بالكامل باعتبارها هيئة تمارس نشاطا اقتصاديا يجمع بين الخدمات البريدية وخدمات التسوق الإلكترونى والخدمات المالية. ومن المؤكد أن مؤسسات البريد قد حققت نجاحا كبيرا فى استقطاب مدخرات الأفراد فى أوروبا على خلفية الأزمة المالية فى عام 2008 والتى تسببت فى تراجع الثقة فى الكثير من المؤسسات المالية، وعززت من دور مكاتب البريد فى التعامل المباشر السهل مع مختلف الشرائح من الجماهير، وخاصة فى المناطق الريفية وبعيدا عن المراكز الحضرية.
وإذا كان البريد المصرى يملك نحوا من 4200 مكتب بريد فى مختلف بقاع الجمهورية، فإنه يضمن فرصة ذهبية فى تحقيق الشمول المالى المبتغى، خاصة إذا حل المعادلة الصعبة التى تجمع بين الطبيعة المؤسسية المنضبطة الخاضعة للرقابة والضوابط والتشغيل المتطور، وبين التواصل السهل المباشر مع العملاء على اختلاف مستوياتهم الثقافية والعلمية، وتقديم منتجات مفصلة لاحتياجات المستثمر الصغير، والذى يمكن أن يستوعب نسبة كبيرة من الأموال الدائرة فى الاقتصاد غير الرسمى وما أكبره فى مصر.
المجال لا يتسع، والميراث ثقيل، والتحديات تعظم مع عظم التاريخ البيروقراطى للمؤسسات، لكن مواجهة تلك التحديات مقدمة على تسويق المنتجات والدعاية لها، حتى لا تعطى الحملات الإعلانية نتيجة عكسية، وتلقى على المؤسسة بحجم من الطلب لا تقوى على تلبيته بكفاءة.
ملحوظة أخيرة: فى مرة تالية استعنت بخدمات شركة أخرى تعمل فى مصر، لإرسال شحنة بذات المواصفات. كانت التكلفة أكبر كثيرا، لكن التجربة كانت موفقة وتخلو من المفاجآت. حضر مندوب الشركة إلى منزلى فى الموعد المحدد لاستلام الشحنة، تم التعامل كله بصورة رقمية حتى السداد... كانت التكلفة تشمل التأمين الذى يعوضنى بمبلغ مجزى حال الفقد... كانت بيانات الشحنة واضحة وتعقبها سهلا على الإنترنت، وقد تلقاها المستلم فى الموعد المحدد، والذى أخبرنى مكتب البريد أنه «خلال» أربعة أيام عمل، فوصلت فى اليوم الثالث!.