صلح الحديبية فى الاستراتيجية الإسلامية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 11 أبريل 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
فيما يعد بمثابة أول معاهدة سلام فى الإسلام، أبرم الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع كفار قريش، فى شهر ذو القعدة من العام السادس للهجرة، صلح الحديبية، كما يطيب لعلماء السيرة النبوية تسميته. فبعد أيام من رؤيته المنامية بدخول مكة مع أصحابه، خرج النبى فى جمع من المسلمين، محرما بالعمرة ومعه الهدى. وحرصا منهم على طمأنة قريش بأنهم لا يقصدون مكة للقتال، وإنما لزيارة بيت الله الحرام؛ فقد انطلقوا عزلا من السلاح. غير أن ذلك لم يكن كافيا لمنع المشركين من استنفار الجند لصدهم ومنعهم بالقوة. فما كان من الرسول، عليه الصلاة والسلام، إلا أن سلك طريقا مغايرا، حتى بلغ الحديبية، على مشارف مكة، فتموضع بها حَقنا للدماء، وتَجنبا للقتال، وتأهبا للحوار.
تمخضت المفاوضات بين المعصوم، صلى الله عليه وسلم، ومندوب قريش، سهيل بن عمرو، عن توقيع معاهدة صلح، جاء فيها: عودة المسلمين دون دخول مكة المُكرَمة هذا العام، على أن يلجوها العام المقبل. عقد هُدنة بين المسلمين وقريش لمدة عشر سنوات. من أراد أن يؤمن فله ذلك، ومن ابتغى الانضمام إلى قريش فله ذلك، ويصبح ذلك الفرد أو القبيلة جزءا من الفريق، وأى اعتداءٍ يتعرض له يُعتبَر اعتداء على الفريق كله. أن من ذهب إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، من فريق قريش، بغير إذن وليه فارا منهم، فإنه يُعاد إليهم، ومن ذهب إلى قريش بغير إذن النبى، فارا منه، فإنه لا يُرد إليه.
للوهلة الأولى، تراءى لبعض الصحابة أن الصلح ينطوى على إجحاف وإذلال للمسلمين. وكما أورد البخارى، قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، للنبى صلى الله عليه وسلم: «ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟، قال صلى الله عليه وسلم بلى، فقال: فَلِمَ نعطى الدنية فى ديننا إذا؟!». لكن الرسول كان موقنا أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين لاحقا. وفى طريق عودته إلى المدينة المنورة، والمسلمون فى همٍ وغم بعدما حيل بينهم وبين نُسٌكهم، أنزل الله تعالى على رسوله الكريم سورة الفتح، متضمنة بشارة بالفتح المبين والنصر العزيز، والرضا الإلهى. ففى البخارى، قال النبى المجتبى: «أنزلت على الليلة سورة لهى أحب إلى مما طلعت عليه الشمس». ثم قرأ مستهل سورة الفتح: «إِنَا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا»، فانقلبت كآبة المسلمين فرحا وسرورا، وأدركوا أن التسليم لأمر الله ورسوله مناط الخير لدينهم ودنياهم.
واقعيا، أنهى انخراط قريش فى صلح الحديبية، عجرفة المشركين واستعلاء المنافقين على المسلمين ودينهم ونبيهم. حيث انطوت وثيقة الحديبية على تسليم وإقرار رسميين، من قبل كفار مكة وحلفائهم، بوجود الإسلام وشرعية دولته الوليدة.
ودعويا، أتاح الصلح للمسلمين، حينا من الدهر، لعولمة رسالتهم، عبر التوسع فى الدعوة بأمان تام، فى داخل الجزيرة العربية وخارجها. حيث استغل الرسول مدة الهدنة؛ لإرسال البعوث إلى ملوك الفرس، والروم، ومصر؛ والحبشة، والغساسنة، لدعوتهم إلى الإسلام. ومضى المسلمون فى نشاطهم الدعوى داخل مكة ذاتها، عرين صناديد الكفر وأئمة الشرك، حتى اتسعت قاعدة الإسلام وزاد عدد المسلمين. إذ اعتنق دين الله فى غضون عامين فقط، ما يفوق أعداد معتنقيه قبل توقيع صلح الحديبية. ففى حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة مسلم، توجه لفتح مكة بعدها بعامين فقط، فى عشرة آلاف. وهذا ما بشر به صحابته الكرام أثناء عودته إلى المدينة عقب إبرام المعاهدة.
أما عسكريا، فقد مكن صلح الحديبية، المسلمين من التفرغ لمواجهة يهود خيبر، وإنهاء تهديدهم الدائم للمدينة المنورة، خصوصا بعد تحالفهم المقيت مع كفار قريش ضد ديار الإسلام. فقبل الصلح، لم يكن بمقدور المسلمين مواجهة جحافل أعدائهم المتحالفين المتربصين فى وقت واحد. ومن ثم، عقد الرسول الكريم صلح الحديبية مع مشركى مكة، لتفكيك التحالف العسكرى الذى دشنوه مع اليهود وأعوانهم، ضد المسلمين فى معركة الخندق، أو الأحزاب، فى السنة الخامسة للهجرة. وبذلك، تسنى للمسلمين التفرغ لتحييد العدو الأقرب إليهم، وهو اليهود، بعدما أَمنوا جانب قريش، حتى تحين ساعة المواجهة الحاسمة فى الوقت الملائم.
بعد عشرين يوما من صلح الحديبية، وعقب تحييد الرسول أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وهو قريش، توجه صلى الله عليه وسلم إلى محاسبة جناحى اليهود وقبائل نجد. فبرؤيته الاستراتيجية الثاقبة، قرر النبى ألا يسير إلى مكة، إلا بعد تأمين شمال الحجاز، حتى حدود الشام، من خلال الاستيلاء على خيبر وغيرها من البؤر والقواعد اليهودية الحيوية، لحرمان القبائل المعادية المحيطة بالمدينة، من أى مركز يمكن اتخاذه قاعدة لمهاجمة الدولة الإسلامية الناشئة. حتى يأمن المسلمون، ويسود الهدوء والسلام فى المنطقة، ويتحرر المسلمون من دوامة الصراع الدامى المتواصل، ليباشروا تبليغ رسالة الله والدعوة إليه. ولما كانت خيبر هى وكر الدس والتآمر، ومنبع الاستفزازات العسكرية وإثارة الحروب، فقد كان لها الأولوية. ولملاقاة عشرة آلاف مقاتل يهودى مدربين ومدججين بأعتى الأسلحة، ومتمترسين خلف أمنع الحصون، تقدم ألف وثمانمائة مقاتل مسلم، شهدوا صلح الحديبية. وبعد عدة أيام من محاصرة حصون خيبر، تمكن المسلمون من اقتحامها وفتحها، فضلا عن أسر وسبى آلاف اليهود برفقة غنائم لا حصر لها. وكان لتلك الغزوة نتائج استراتيجية مبهرة، حيث تم على إثرها توحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام، وتحويلها إلى مرتكز آمن لنشر دين الله فى ربوع المعمورة.
فى خضم مساعيه الحثيثة لنشر التوحيد فى أصقاع الأرض، بعث النبى رسولا إلى ملك بُصرى، فقتله شرحبيل الغسانى، وإلى البلقاء، الموالى للروم، منتهكا بذلك أعرافا وتقاليد راسخة، فيما يعد إعلانا للحرب على المسلمين. فجهز الرسول جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لملاقاة الغساسنة وحلفائهم الروم. فكانت غزوة «مؤتة»، فى العام الثامن للهجرة. وقد اعتُبرت كذلك، رغم عدم مشاركته، صلى الله عليه وسلم، فيها، لأنه تولى، بذاته الكريمة، تجهيز الجيش، وتسمية قياداته، وتوجيهه للحرب. ورغم اختلال موازين القوى فى العدد والعتاد لمصلحة جيش الروم، الذى تخطى المائتى ألف مقاتل، أبلى جيش المسلمين، بقيادة خالد بن الوليد، بلاء حسنا، فى أول أيام القتال. وفى اليوم التالى، عمد خالد إلى إنقاذ جيشه الصغير من الهلاك، باعتماد خطة عبقرية للانسحاب الآمن، والمتدرج، والمنظم، حتى يتفادى ملاحقة الروم للمسلمين وإبادتهم فى العراء. وقد كان، حيث نجح المسلمون فى العودة سالمين إلى المدينة، بخسائر بشرية لم تتجاوز اثنى عشر رجلا، مقابل ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسين قتيلا روميا. الأمر الذى خلف آثارا عميقة فى نفوس العرب والعجم، إذ كان الروم أعظم قوة على الأرض، فى حينها. ومن ثم، شكلت غزوة «مؤتة» نقطة تحول تاريخية فى مسيرة الدولة الإسلامية الناشئة. حيث وطدت أركانها، وأبرزت بسالة جيشها، وقدمت قائده للعالمين، باعتباره أحد أهم القادة العسكريين فى تاريخ الحروب. كما أرست دعائم أول استراتيجية ردعية إسلامية.
لم يكد ينسلخ عامان على توقيع هدنة الحديبية، حتى نقضتها قريش بإعانتها حلفائها من بنى بكرٍ، فى الإغارة على قبيلة خزاعة، حليفة المسلمين، الذين حُق لهم التحلل من صلح الحديبية، والاستنفار لنصرة حليفهم المغدور. فكان التحرك لفتح مكة، فى العشرين من رمضان، بالعام الثامن للهجرة، وضمَها إلى الدولة الإسلامية، التى أضحت تظل جل جزيرة العرب. وهنالك، صدق المولى عز وجل وعده لنبيه وأتباعه المؤمنين، حتى تسنى لهم الإجهاز على آخر أضلاع مثلث التحالف المعادى لدولتهم ودينهم. وفى هذا يقول ابن مسعود، رضى الله عنه: «إنكم تعدون الفتح، فتح مكة، ونحن نعده صلح الحديبية». أما الصديق أبوبكر، صاحب الحكمة والفطنة والبصيرة، فقد اعتبر ذلك الصلح، أبرز الإنجازات فى مسيرة الدعوة الإسلامية. حيث قال، رضى الله عنه: «لا فتح إلا فتح الحديبية».