بيكاسو وقطر
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
السبت 11 مايو 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
تناقلت وكالات الأنباء وكثير من الصحف العربية والأجنبية، أخبارا عن إحدى لوحات بيكاسو الشهيرة، التى سوف تغادر بريطانيا قريبا، رغم أنها استقرت على أراضيها لما يزيد على ثمانية عقود. تترك اللوحة صالة مزادات كريستى البريطانية بحلول السابع والعشرين من الشهر الحالى (مايو)، بعد أن قام أحد الأثرياء القطريين بشرائها.
المفارقة الحزينة التى دعت وسائل الإعلام إلى الاهتمام بأمر هذه اللوحة تحديدا، هى إعلان بريطانيا عجزها عن إيجاد تمويل كاف، يغطى قيمة اللوحة وبالتالى لم يعد أمامها سوى الاستسلام للأمر الواقع، والاستعداد لتسليمها إلى دولة أخرى.
يقال إن بيكاسو رسم اللوحة وهو دون العشرين من العمر، وقد انتقلت من ملكية خاصة إلى أخرى حتى استقرت فى بريطانيا منذ عام 1924، وعُرِضَت أخيرا للبيع، فما كان من بريطانيا إلا أن حظرت خروجها من أراضيها حتى ديسمبر الماضى أملا فى تدبير التمويل اللازم لإعادة شرائها، لكن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها الدولة، تبدو وقد انعكست على كل شىء، فلم تتقدم أية جهة لتنقذ اللوحة، ولم يفكر أحد الأثرياء البريطانيين فى اقتنائها.
●●●
وضعت الأزمة المالية البريطانية أوزارها على مستويات متعددة، فقد اتسع العجز التجارى منتصف العام الماضى، وتناولت الصحف تصريحا لوزير المالية جورج أوزبورن، فى نهاية عام 2012 يؤكد فيه ضعف النمو الاقتصادى، ويقول إن التعافى من الأزمة المالية سيستغرق وقتا طويلا. أشارت بعض المقالات أيضا إلى إن الأزمة المالية أثرت بشدة على سوق العقارات، وجعلت الشبان يراجعون أنفسهم بشأن الالتزام بالتقليد البريطانى المقدس؛ الذى يتلخص فى امتلاك منزل، ومن ناحيتها تشددت البنوك فى إعطائهم القروض العقارية، وقد كشفت دراسة حديثة منشورة فى ديلى ميل؛ إن ما يزيد على ثلاثة ملايين بريطانى أصبحوا مجبرين على العيش مع أزواجهم، أو رفقائهم السابقين تحت سقف واحد بعد الانفصال، لعدم قدرة الطرفين على تحمّل تكاليف المعيشة فى منزل آخر، أى إن المسألة مالية وليست عاطفية. ربما تشير هذه الظروف إلى أن الاهتمام بعمل فنى ــ مهما كانت قيمته ــ لن يقع مرحليا على رأس الأولويات.
●●●
أثارت لوحة بيكاسو «child with dove» تساؤلات عديدة حول المكان الذى تقدمه، والمزاج النفسى لأبطالها، والطريقة التى استكانت بها الحمامة بين اليدين الصغيرتين، وكذلك هوية صاحب أو صاحبة هاتين اليدين. من العجيب إن غالبية الصحف المصرية والعربية التى طالعتها، والتى تناولت أخبار اللوحة فى الأشهر الأخيرة، اعتبرت أن حامل الحمامة طفل ذكر فكتبت بثقة: لوحة «الطفل والحمامة»، دون أن تلتفت لوجود شك غير محسوم حول ما إذا كان بيكاسو قد رسم طفلا أم طفلة. رغم الرداء الطويل الذى يشبه الفستان، والحزام الذى يزين الخصر، فإن الشعر القصير المقصوص كما الصبيان، يبدو وقد مثل لمترجمى الأخبار علامة أكيدة على الذكورة.
قيمة اللوحة التى تم بيعها هى خمسون مليون جنيه استرلينى، مبلغ عجزت بريطانيا كلها عن توفيره، الإمبراطورية السابقة العظيمة التى احتلت بلدانا لا تحصى ولا تعد، تجد نفسها مجبرة على التخلى عن ممتلكاتها، وقد وقف شخص واحد بماله وثروته ندا أمامها. موقف، وصفه لورد إنغلوود عضو لجنة المراجعة التابعة لمجلس الفنون بأنه «عار كبير». أظن أن منبع وصفه، هو الإحساس بالعجز المهين عن الحفاظ على الأصالة والتاريخ، لكنها سطوة الأموال القادرة على كل شىء؛ الأموال القادرة على تسويم الآخرين شىء من الإذلال الأنيق.
●●●
يعتبر الخبراء قطر أحد المشترين الثلاثة الأوائل فى عالم الفن التشكيلى على مستوى العالم بما لديها من موارد ضخمة، ويقال أنها دفعت مئات الملايين من الجنيهات الاسترلينية مقابل الحصول على لوحات ثمينة لبول سيزان وروتكو، وإنها تسعى لأن تصبح السوق الرئيسية للفنون فى المنطقة، وتقوم من هذا المنطلق ببناء متحف كبير يضم مجموعات من أعلى اللوحات قيمة، الأمر الذى طرحه بعض الكتاب للنقاش باعتباره صراعا حضاريا على رموز الفن والثقافة العليا. أمر غريب، إن قطر التى سوف تستقبل وتحتضن لوحة بيكاسو ومن قبلها لوحات أخرى لكبار الرسامين، هى فى الوقت ذاته «مملكة العبودية الجديدة» على حد وصف مقال بالنيويورك تايمز، حيث يعانى العمال الأجانب أزمة معاملة غير آدمية، تبرز من خلال شروط العمل ونظام الكفالة، وحيث تتناول الخادمة وجبة واحدة ولا تحظى بأى عطلة أسبوعية، ولا تملك الرجوع إلى بلدها إن أرادت إلا بموافقة سادتها. يكمن بين الأمرين (الاهتمام بالفنون وامتهان الكرامة) تناقض إنسانى عميق.
●●●
يراودنى شعور أدرك تماما أنه غير منطقى، وغير عقلانى، بأن الطفلة والحمامة فى اللوحة ذاهبتان إلى حيث لا ناقة لهما ولا جمل، وأنهما سوف تفتقدان المكان الذى اعتادتا الوجود فيه. يرى الخبراء إن رسم بيكاسو للأطفال والطيور وخاصة الحمام، إنما يعبر عن الأمل فى عالم مستقبلى أفضل، وكان بيكاسو نفسه يقول: «المدهش فى الحمام أنه حين ينظر إليك، فهو من يشعر بالأمان، مع إن المفترض أن نكون نحن من يشعر بالأمان». ترى هل تكون اللوحة أمنة مُبهِجة فى مأواها الجديد، أم يصبح مستقبلها غامضا؟.