الإسلاميون وإشكالية الدمج والاعتدال

خليل العنانى
خليل العنانى

آخر تحديث: السبت 11 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

منذ قيام ثورة ٢٥ يناير جرت مياه كثيرة فى بحر «الإسلاميين» وتقلبت أحوال الظاهرة الإسلامية، كما كان يسميها الراحل حسام تمام، بشكل جذرى وهو ما يتطلب إعادة التفكير بشأن هذه الظاهرة وفهم تعقيداتها واستبصار ما تطرحه على الأمة المصرية من أسئلة وتحديات سيكون لها أثر كبير فى تحديد مستقبل البلاد خلال السنوات المقبلة. ولعل أبرز التحولات التى طالت البنية الحركية والتنظيمية للإسلاميين طيلة العامين الأخيرين يتمثل فى عملية التسييس المتزايدة التى أدت إلى دمج كثير من أبناء التيار الإسلامى ضمن أطر العملية السياسية فى مرحلة ما بعد الثورة سواء كان ذلك من خلال المشاركة الحزبية والانتخابية أو بالانخراط فى المجال العام والاشتباك مع قضاياه ونقاشاته التى طالت معظم المسائل التى طرحتها الثورة على مائدة الحوار المجتمعى. بيد أن ما يلفت النظر فى هذه التحولات هو مدى ارتباط مسألة دمج الإسلاميين باعتدال خطابهم الأيديولوجى والفكرى وسلوكهم السياسى. وهى إحدى القضايا المسكوت عنها فى نقاشات النخبة المصرية والمتخصصين رغم أهميتها ومركزيتها نظريا وعمليا. بكلمات أخرى، من أجل فهم وتقييم الأداء السياسى والخطاب الأيديولوجى للإسلاميين وذلك بعيدا عن التناول الإعلامى السطحى أو السياسى المؤدلج، لا بد من فهم ديناميات ونتائج عملية الدمج التى جرت لهم طيلة العامين الأخيرين ومدى تأثيرها على بنية العقل والخطاب والسلوك لدى كثير منهم وذلك ضمن إطار أوسع للمقارنة مع حالات أخرى قد تكون مماثلة.

 

●●●

 

راجت طيلة العقد الماضى أطروحة الدمج والاعتدال (أو ما يعرف بـinclusion-moderation thesis)  فى كثير من الأدبيات التى درست الحركات الإسلامية العربية، وقد قدم باحثون ومفكرون عرب وغربيون إسهامات مهمة فى هذا المجال منهم الصديق عمرو الشوبكى والراحل حسام تمام والباحث الأردنى محمد أبورمان وغيرهم، وفى الجانب الغربى لا يمكن تجاهل أطروحات وكتابات منى الغباشى وجيلان شويدلر وناثان براون ومارك لينش وإيفا وينجر وستيفن بروك وغيرهم الكثير ممن لا يسع المقام لذكر إسهاماتهم. وتقوم أطروحة الدمج والاعتدال على فكرة بسيطة مفادها أنه كلما زاد دمج الحركات والأحزاب الأيديولوجية المتشددة والمعارضة للدولة anti-establishment movements  فى العملية السياسية كلما جرى تهذيب وترشيد وعقلنة خطابها الأيديولوجى وسلوكها السياسى بحيث يصبحان أكثر واقعية وبراجماتية واحتراما لقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية. وقد أثبت هذه الأطروحة نجاعتها فى حالات أخرى مشابهة كان أهمها ما حدث لكثير من الأحزاب الاشتراكية واليسارية والدينية بعد الحرب العالمية الثانية فى ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والتى أدى دمجها فى العملية السياسية إلى ترشيد وعقلنة خطابها وسلوكها السياسى. كذلك نجحت هذه الأطروحة فى بلاد إسلامية أخرى مثل تركيا التى شهدت أحزابها وتياراتها الإسلامية دمجا تدريجيا منذ سبعينيات القرن الماضى إلى أن وصلوا للحكم عام ٢٠٠٢ تحت قيادة حزب «العدالة والتنمية» التركى بعد أن قام الإسلاميون الأتراك بتطوير خطابهم وأطروحاتهم الفكرية والأيديولوجية وأصبحوا حزبا محافظا ثقافيا واجتماعيا أكثر منه حزبا دينيا أصوليا. وبناء على هذه التجارب والخبرات كان من المنطقى أن يقوم بعض الباحثين بعمل مقاربات مشابهة للأحزاب والحركات الإسلامية العربية واختبار مدى إمكانية تطبيق أطروحة الدمج والاعتدال عليها.

 

●●●

 

من هنا فإن السؤال فى حالتنا المصرية هو: إلى أى مدى أدى دمج الإسلاميين طيلة العامين الماضيين إلى اعتدال خطابهم الأيديولوجى وسلوكهم السياسى؟ وهو سؤال قد تبدو إجابته الآن صعبة لعدة أسباب أولها قصر الفترة الزمنية التى يمكن خلالها اختبار ديناميات التفاعل بين كلا المتغيرين (الدمج والاعتدال) بقدر من الجدية والموضوعية. ثانيها حالة التشظى والتفتت التى تغمر الساحة الإسلامية والتنوع الشديد فى اللاعبين الإسلاميين ما يتطلب ضرورة تحديد هوية هؤلاء الذى يجرى اختبار وتطبيق الأطروحة عليهم. وثالثها، وهو الأهم، فيتعلق بمعايير قياس درجة الاعتدال. فناهيك عن الجدل والخلاف الكبير بين الباحثين حول مفهوم الاعتدال وكنهه، فإن ثمة خلافا أيضا حول الأطر المرجعية القيمية والمعيارية الحاكمة لمضمون لهذا الاعتدال والتى لا تخلو بحال من تحيز معرفى وأنطولوجى للباحث سواء كان تحيزا كامنا أم صريحا. وهى مسألة يقر بها كثير من الباحثين الغربين المشتغلين فى هذا المجال.

 

 تقول «كارى ويكام»، وهى باحثة أمريكية أمضت أكثر من عقدين فى دراسة الحركات الاجتماعية الإسلامية فى مصر وعايشت بعضها فى المناطق الشعبية المصرية مثل إمبابة وناهيا أواخر الثمانينيات، «إن التغير فى خطاب وسلوك الحركات الإسلامية يعتمد بالأساس على توقعات ومرجعية الباحثين المعيارية والتى لا تخلو من تحيزات معرفية وقيمية».

 

وعلى الرغم من هذه الصعوبات المفاهيمية والإجرائية التى يمكن من خلالها قياس مدى ودرجة الاعتدال المطلوب، يمكن القول بقدر من الثقة بأن الخرائط الحركية والإدراكية للإسلاميين بعد الثورة قد شهدت قدرا من التغير فيما يخص العلاقة الجدلية بين كلا المتغيرين (الدمج والاعتدال)، فثمة متشددون قد نحوا باتجاه الرشدنة والعقلنة، وثمة معتدلون أصابهم التشدد والجمود. فعلى سبيل المثال نحا كثير من السلفيين والجهاديين باتجاه تبنى المزيد من الواقعية السياسية والتى يصفها البعض أحيانا بالانتهازية، فى حين مالت جماعة «الإخوان» وهى المعروفة باعتدالها وبراجميتها الشديدة إلى التشدد والتمسك بمواقفها بشكل أثار حيرة المراقبين والمختصين قبل السياسيين.

 

بكلمات أخرى، فى الوقت الذى كان من المفترض فيه أن يؤدى الدمج الكلى لجماعة «الإخوان» فى العملية السياسية ما يعنى تبنى خطابا توافقيا وسياسات لينة تجاه القوى الأخرى، فإن ثمة ميلا لدى الجماعة لتبنى مواقف شديدة المحافظية والانغلاق لا تناسب الحالة الثورية التى مرت بها مصر طيلة العامين الماضيين. وبدلا من أن تتبنى الجماعة وممثلها فى السلطة الرئيس محمد مرسى أجندة سياسية ثورية وخطاب أيديولوجى ودينى تقدمى، فوجئ كثيرون بأن الجماعة إما مترددة فى هدم بنية الاستبداد والفساد التى كانت سببا رئيسيا لقيام الثورة وإما تحاول إعادة استنساخ النظام القديم وإن بشكل ديمقراطى من أجل الاحتفاظ بالسلطة. وفى حين أصاب السلوك السياسى للإخوان الكثيرين بالإحباط وفقدان الأمل فى إمكانية أن تسير مصر باتجاه تحول ديمقراطى ناجز، فقد اعتبره آخرون مؤشرا على سلطوية البنية الأيديولوجية والعقائدية والتنظيمية للجماعة التى كانت تحاول مداراتها طيلة مرحلة ما قبل الثورة. ولم يعد التشكيك الآن فى مدى امتلاك الإخوان للكفاءات والمهارات السياسية اللازمة لإدارة شئون الدولة وإنما أيضا فى المصداقية الايديولوجية والفكرية للجماعة ومدى التزامها بالديمقراطية قيما وسلوكا وخطابا.

 

●●●

 

على الجانب الآخر فإن التحول السلبى فى خطاب وسلوك الإخوان يمثل تحديا جديا لأطروحة الدمج والاعتدال بصيغتها الراهنة، ويكشف مدى ضعف نموذجها التفسيرى وهشاشة افتراضها الرئيسى واهتزاز علاقاتها السببية. فمن جهة أولى فإن مقارنة سريعة بين خطاب الإخوان وسلوكهم قبل وبعد الثورة تكشف أن القمع، وليس الدمج، كان دافعا لتطور الخطاب الفكرى للجماعة ونضوج وعقلنة سلوكها السياسى وهو أمر محيّر وربما فى حاجة إلى دراسة سلوكية ونفسية للجماعة. ومن جهة ثانية فإن الانتقال المفاجئ للإخوان وتبديل مركزها السياسى من حركة معارضة ظلت مقموعة لعقود إلى جماعة وحيدة حاكمة لم يصاحبه أى تحول أو انتقال فى الرؤية أو بنية التفكير أو السياسات. ومن جهة ثالثة فعلى عكس حالات تركيا والمغرب والأردن واليمن والكويت، لم يحدث دمج تدريجى للإخوان وإنما  انخراط سريع ومفاجئ فى إدارة شئون الدولة والحكم دون أية خبرة دولية أو استعداد نفسى أو أيديولوجى أو تنظيمى. ورابعا فإن الدمج المفاجئ للإخوان لم يحدث ضمن ظروف طبيعية أو مستويات دنيا بشكل قد يساعد الجماعة على إعادة موضعة نفسها وترتيب أفكارها وأولوياتها وإنما جاء عقب ثورة شعبية تبعها سوء إدارة وتخبط شديد ممن تولوا رسم خارطة الانتقال الديمقراطى بعد سقوط مبارك. وأخيرا فإن دمج الإخوان تم ضمن حالة شديدة التوتر والاستقطاب الهوياتى والدينى والاجتماعى غلب عليها الطابع التنافسى/ الصراعى أكثر من المنحى التوافقى/التعاونى ليس فقط مع القوى المغايرة فكريا وأيديولوجيا وإنما داخل المعسكر الإسلامى ذاته وهو ما وضع الجماعة، ولا يزال، تحت ضغط المزايدات السياسية والدينية التى يدفعها باتجاه الانغلاق وليس الانفتاح.

 

 

 

باحث ومحاضر بجامعة دورهام ــ إنجلترا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved