البيوت أسرار
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 11 مايو 2016 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
فى البيت الخالى يظهر خيال امرأة، تتحرك ببطء بين الأشياء، تقف لحظات أمام المرآة فأخمن أن علائم الشوق والضجر تتمازج على وجهها. شعرها أبيض، ترتدى ملابس داكنة. هذه هى المرة الأولى التى أرى فيها شخصا يتحرك داخل هذه الشقة. الشقة تبدو مهجورة رغم امتلائها بما يدل على أنها كانت يوما تعج بالحياة. الأشياء أساسها يبدو فى مكانه، من طريقة رص الكراسى والسرير وغيرهما، ولكن بعضها الآخر يبدو أنه تم تخزينه فى الشقة عبر السنين، فهو لم يمت بصلة إلى باقى البيت كما أحاول أن أتصوره كما كان فى أيام عزه.
فى الشقة المجاورة، والتى غالبا ما تكون شبابيكها مفتوحة، تظهر شاشة التليفزيون ويبدو لى أن من فى الغرفة يتابع الأخبار. تتحرك سيدة ثم تختفى بسرعة، ويمر ولد من أمام النافذة فيجلس ما بعد طرفها الأيمن. أراه يفتح كتابا ويتابع بعضا من برنامج التليفزيون بينما يحاول أن يقرأ. أرى السيدة مرة أخرى، تقف أمامه، تعطيه ما يبدو لى أنه طبق. الساعة الثامنة مساءً، وأنا أدخل متسللة إلى بيوت أناس لا أعرفهم، فأعيش معهم فى حميمة عائلتهم بضع دقائق.
***
فى أوقات الزحام، حين تقف السيارة على أحد جسور القاهرة التى تصل بين أحياء المدينة، كثيرا ما يكون مستوى نظرنا على نفس مستوى بعض الشقق المطلة على الجسر. من شباك السيارة أدخل ببصرى إلى بعض تلك البيوت، أحاول التعرف على قاطنيها، الطفلة لا تزال فى زيها المدرسى، وقد زينت ضفائرها بشرائط بيضاء. الأب جالس على كرسى أمام طاولة الطعام ومعه الجريدة، ربما هو ينتظر أن تُرص أمامه وجبة الغداء.
فى الشارع أنظر إلى فوق حين أمشى، أتمنى أن أسمع صوت طرطقة الأوانى من المطبخ الذى تظهر لى رفوفه العلوية من موضعى فى الشارع. فى الطابق الأرضى من هذا البيت سيدة كبيرة فى العمر تجلس فى بلكون ضيق على كرسى تستند بذراعها على طرفه، بينما تحرك مروحة ورقية صغيرة ألوانها زاهية بيدها الأخرى.
***
البيوت أسرار، والتلصص عيب، هكذا تعلمنا، وهذا هو أحد مبادئ حماية النفس من أى مشاكل مع الجيران. غير أننى أجد نفسى دوما منجذبة للنظر إلى غرف معيشة الآخرين، فأكتب فى مخيلتى قصصا قصيرة عن حياتهم. أتصور قصصهم كأجزاء من أفلام تم تصويرها فى سبعينيات القرن الماضى، فأرى فى الشابة الجميلة شبها من سعاد حسنى، وحين يدخل الرجل إلى ساحة بصرى فى بيتهم أتخيله فؤاد المهندس وأتخيل الأم كريمة مختار؛ أما سعاد حسنى فهى حتما تحب ابن الجيران فى السر.
قد يبدو للوهلة الأولى أن ذلك فضول، لكنه بالنسبة لى أقرب إلى محاولة تواصل، لكل منا قصصه العديدة، وأتخيل أحيانا أننا لو نظرنا من الفضاء إلى المدينة التى نعيش فيها، وصلنا بين الناس بخيوط ملونة تربطهم بعضهم ببعض، لوجدناهم كلهم مترابطين وخيوطهم فكها مستحيل، كلهم قد تفاعلوا مع أحدهم أو مع الآخر فى مراحل مختلفة من حياتهم دون أن يعطوا لذلك أهمية.
كثيرا ما نسمع عن قصص الناس من أناس آخرين، أو عن الجيران من جارة تكون أكثر حماسة لنشر الأخبار. لكن للبيوت طرقا أخرى للتواصل. وضعت تلك الجارة الملوخية لتجففها فى الشمس على الشرفة، الكمية كبيرة إذن يبدو أنها من أكلاتهم المفضلة. وها هى الأخرى تنشر الغسيل، فتذكرنى بتعليمات صارمة كنت أسمعها فى طفولتى حول نشر كل ما هو حميم من ملابس داخلية وغيره فى الصف الداخلى من الحبال الأقرب إلى داخل البيت، ووضع كل ما هو أقل حميمية مثل اللحافات على الجانب الخارجى من الحبال الذى يمكن للجيران أن يروه، وبذلك تتم مواراة الملابس الخاصة عن أنظار الآخرين. فكما أتدخل من موقعى فى حياة الناس هم بطبيعة الحال يفعلون الشىء نفسه حتى ولو بدرجات متفاوتة.
***
فى داخلى متفرجة صغيرة تعشق التفاصيل الحياتية، تحب أن تمر بفرشاة الألوان على أناس لا تعرفهم فيظهر الأصفر والأحمر والأخضر والأزرق كما تتخيلهم هى، فى داخلى متفرجة ترى أن كل تفصيل مهم حتى ولو لم ننتبه له حين حدوثه، فها نحن نرجع إلى موقف شدنا فتظهر أمامنا مزهرية لا نعرف من أين استحضرناها، ثم نتذكر أنها كانت على الطاولة وقت الحدث. أنسج قصص الناس فى خيالى خصوصا فى القاهرة، حيث الصورة النمطية حاضرة بشدة، حتى إننى أذكر أن أدق وصف وجدته لعلاقتى مع المدينة فى شهورنا الأولى من العلاقة بالمكان الجديد هو مدى شبهها لصورتها فى الأفلام والمسلسلات وفى تصورى كغير مصرية لها.
***
أنظر من جديد إلى الشقة المهجورة فأرى السيدة تغطى العفش بقطعة كبيرة من قماش أبيض بعد أن حملت بيدها ما يشبه الأوراق والمستندات، ربما ألبوم صور أيضا. أرفع بصرى إلى الطابق الأعلى فأرى امرأة يناهز عمرها عمرى تنظر إلى. أرتبك فهى تراقبنى، تماما كما راقبت أنا السيدة الأولى، أنظر ورائى فأرى أن باستطاعتها أن ترى بيتى كما أرى أنا بيت السيدة العجوز. هى ترى حياتى وتلونها هى الأخرى بألوانها وانطباعاتها ممزوجة بخيالاتها. أبتسم لها ثم أنظر إلى الشقة المهجورة فأراها مظلمة، ذهبت السيدة، أم تراها لم تأت قط وقد تخيلتها؟!