بلاد العرب ــ معوقات الديمقراطية بعيدًا عن الحكومات السلطوية ومصالح الغرب
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 11 مايو 2018 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
إزاء مشهد عربى خيوطه الناظمة هى الحروب الأهلية والتوترات الطائفية ــ المذهبية والعنف المجتمعى وشبح الصراعات ــ الحروب الإقليمية، بات الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والحريات العامة أشبه ما يكون ببكاء على أطلال تحولات دفعت بها انتفاضات ٢٠١١ إلى الواجهة ولم تكتمل إما لعدم مواءمة الظروف الداخلية والإقليمية أو لتآمر قوى الاستبداد فى الداخل والخارج على مجتمعاتنا وإفشالها لفرص بزوغ الديمقراطية. وعلى ما فى البكاء على الأطلال من جاذبية وما لمقولات الظروف غير الموائمة والمؤامرات من سطوة كلامية بيننا كعرب، تظهر قراءة المشهد الراهن انطلاقا منها العديد من الغيابات وأوجه القصور التى تستحق النقاش.
ذلك لأننا حين نبكى على الأطلال وننتهى بعد اهتمامنا خلال الأعوام الماضية بإمكانات التحول نحو الديمقراطية وتحسين حالة حقوق الإنسان والتعددية والحريات إلى تقرير إخفاق عربى عام على جميع المستويات، عادة ما نكتفى بإلقاء كامل اللائمة على نظم الحكم القائمة لتعنتها السلطوى وكذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى كالقوتين الخارجيتين المؤثرتين فى بلاد العرب لعدم التزامهما الفعلى بدعم الديمقراطية. وعلى الرغم من موضوعية الإشارة إلى التعنت السلطوى للحكام قبل وبعد انتفاضات ٢٠١١ وصحة تقرير تهافت خطابات وبرامج دعم الديمقراطية الأمريكية والأوروبية، يظل وراء مثل تلك المقولات تجاهل خطير لضرورة تحليل معوقات الديمقراطية الحاضرة فى المجتمع والسياسة والثقافة بعيدا عن دور نظم الحكم التى أثبتت خبرة ٢٠١١ ــ ٢٠١٨ سطوتها وعمقها.
وراء مثل تلك المقولات قراءة سطحية لطبيعة التهديدات الاستراتيجية والأمنية التى ترد على المصالح الغربية حال حدوث شىء من التحول الديمقراطى فى بعض مجتمعاتنا، أقرر ذلك بعيدا عن معارضتى الأخلاقية والسياسية لتحكم مصالح الغرب فى مصائرنا كعرب. وراء مثل تلك المقولات صمت على تداعيات تنامى نفوذ قوى إقليمية ودولية فى مجتمعاتنا تدافع عن الاستبداد ولا تشكل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان محددات لسياستها وفعلها الخارجى.
***
فمن جهة أولى، تدلل وضعية الأزمة المستمرة فى مجتمعات كالعراق ولبنان على عجز قوى المجتمع عن التعامل السلمى ــ الحداثى مع تركيبته التعددية من خلال وسائط مؤسسية وبمضامين تسمح أولا للسياسة بالوجود بما هى منافسة سلمية بشأن تحديد الصالح العام وممارسة توافقية لتحقيق ذلك الصالح العام تخضع للمساءلة والمحاسبة من قبل المواطنين، وتسمح ثانيا للدولة الوطنية بالحضور بما أنها هى الأداة الرئيسية لتحقيق الصالح العام وصاحبة القدرة على ردع الخارجين عن شرطى المنافسة السلمية والتوافق من خلال احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية. يصبح هنا التعامل الاختزالى مع أزمات العراق ولبنان، بإحالتها إلى إخفاق يوصف دوما «بالمرحلى» للقوى السياسية فى ممارسة التوافق ومن ثم النجاح فى تشكيل حكومات ائتلافية حقيقية فى أعقاب الانتخابات أو إلى تبعية مصالح وأجندات هذه القوى لأطراف إقليمية ودولية (من إيران والسعودية والإمارات إلى روسيا والولايات المتحدة)، يصبح بمثابة تحايل غير موضوعى ومضلل على كارثة عجز المجتمع عن ممارسة الديمقراطية والتوافق وما يستتبع تلك الكارثة من غياب مستمر للسياسة وللدولة.
وفى مصر، ثانيا وعلى سبيل المثال، والتعنت السلطوى لنظام الحكم فيما خص تمرير العديد من القوانين المقيدة للحريات وفرض وضعية الحصار على منظمات المجتمع المدنى المستقلة والقليل المتبقى من العمل السياسى المعارض ليس موضع شك، يستحيل موضوعيا فهم أسباب تعثر التحول الديمقراطى دون تناول تداعيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة على المواطن الذى يعزف عن المشاركة فى الشأن العام وينزع إلى ترك الأمر للحاكم الذى يرفعه إلى مقام البطل المنقذ. يستحيل أيضا تجاهل الآثار السلبية لكل من ضعف المكون المدنى داخل مؤسسات الدولة المصرية مقارنة بنفوذ المكون الأمنى، والوهن البنيوى الذى أصاب بنية حكم القانون، والخطايا الاستراتيجية والتكتيكية للقوى السياسية التى زعمت بين ٢٠١١ و٢٠١٣ التزامها بمبادئ وقيم وأهداف الديمقراطية ولم يلبث بعضها أن تخلى عن أولوية التوافق الوطنى لإنجاح التحول الديمقراطى ثم أسقط بعضها الآخر جميع مضامين الإدارة المدنية للسياسة من قبل مدنيين منتخبين.
ثالثا، يبدو حديث الديمقراطية والتحول الديمقراطى فى بلاد العرب على خلفية هيمنة ثقافة العنف الإقصائية والغياب الكامل لقيمة الفرد أشبه بفقاعات هواء لا محتوى لها. لا إدارة للاختلاف، والديمقراطية هى فى الجوهر منهج وإجراءات الإدارة السلمية للاختلاف التى تسمح بالتنوع والتعددية والرأى والرأى الآخر وتداول السلطة فى إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية. وتغيب لدى نخب الحكم وقوى المعارضة القناعة الحقيقية بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينها على نحو يضمن مصالحها الحيوية ويصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبادئ التداول السلمى للسلطة والمساءلة والمحاسبة من خلال إطار لحكم القانون ونظام قضائى مستقل. فقط، نزوع لاحتكار السياسة وإلغاء الآخر وهيمنة للمعادلات الصفرية وصراع من أجل الاستحواذ على السلطة والحكم عنوة ودون تفريط.
رابعا، ليس لمثل تلك الرؤى والممارسات سوى أن تنتج عسكرة شاملة للمجتمع وللسياسة تتناقض جذريا مع الفكرة الديمقراطية وتزيد من تهافت الحديث عن إمكانات التحول باتجاهها. يتضخم المكون الأمنى ــ الاستخباراتى فى أغلبية الدول العربية ذات المؤسسات المتماسكة، يتضخم حتى يطغى على بقية مكونات السلطة التنفيذية ويلغى استقلالية السلطات التشريعية والقضائية وينفرد بالفعل السياسى والمجتمعى ويخضع المجتمع المدنى والقوى السياسية إما للاستتباع أو للحصار. أما فى حالات الدولة المعطلة كالعراق ولبنان والدولة المنهارة كسوريا واليمن وليبيا والدولة الغائبة كفلسطين فتمتد العسكرة من السياسة إلى تركيبات المجتمع الأولية وتتداخل معها على نحو يصنع دويلات داخل الدولة تمتد كالخلايا السرطانية لتواصل الإجهاز عليها أو تحول بينها وبين البحث عن بدايات تأسيسية جديدة.
أخيرا، خامسا، وفيما خص إلقاء لائمة إخفاق التحولات الديمقراطية فى بلدان العرب على الغرب وما يرتبط بذلك النزوع من تذكير مستمر بازدواجية معاييره وعدم استعداده لتحمل كلفة ديموقراطية، فالأمر هنا ينطوى على تبسيط مخل لدور الغرب وقراءة بالغة السطحية لمصالحه فى الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة ومعها كبريات الحكومات الأوروبية تتخوف بشدة من تواصل انفلات الأوضاع الأمنية واستمرار الانفجارات الأهلية العنيفة فى مجتمعاتنا وموجات اللجوء والهجرة غير الشرعية الخارجة منها، تتخوف من كل ذلك وتداعياته لأن مجتمعاتنا عانت من سلطوية السياسة وغياب ثقافة التنوع والتسامح والتوافق وتعثر مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة طوال العقود الماضية. وبعيدا عن تلك المخاوف، يظل توقع أن الغرب إن أراد الديمقراطية العربية وعرفها باعتبارها مصلحة حيوية يملك القدرة على تحقيقها بغض النظر عن المعوقات الحاضرة فى المجتمع والسياسة والثقافة وبمعزل عن إرادة نظم الحكم السلطوية القائمة مسألة تنافى مقتضيات القراءة العقلانية والتحليل العلمى.