نشر موقع 180 مقالا للكاتب والمناضل الفلسطينى مروان البرغوثى، يقول فيه إن كتاب «معركة مخيم جنين الكبرى 2002.. التاريخ الحى» للمناضل الفلسطينى جمال حويل، الذى شارك فى هذه المقاومة الملحمية، يعد أفضل رد موضوعى على ادعاءات الإعلام الإسرائيلى للنيل من صمود المقاومة الفلسطينية، ودرسا للمناضلات والمناضلين عن قوة سلاح الوحدة الوطنية والإرادة الفتاك أمام تفوقهم العسكرى.. نعرض من المقال ما يلى.يُشكل المخيم الفلسطينى رمزا لمأساة الشعب الفلسطينى ونكبته وكارثته، كما يُشكل رمزا للبطولة والفداء والصمود على مدار سبعة عقود مضت تقريبا، منذ أن تعرض شعبنا لأكبر عملية تطهير عرقى وتشريد عرفها التاريخ الحديث والمعاصر.
وإنه من الصعب التقديم لهذا الكتاب وفق المعايير والقواعد الأكاديمية نظرا إلى العلاقة التى تربطنى بالكاتب وموضوع الكتاب، ومع ذلك سأحاول جهدى، مساهمة منى فى تلك الملحمة الخالدة وتقديرا لها، فقد جسدت هذه الملحمة عظمة هذا الشعب، وأكدت صوابية خيار المقاومة وقدرتها على تحقيق الانتصار فى حال توافرت عناصر وشروطا محددة، وفى مقدمها الوحدة الوطنية التى لطالما اعتبرناها قانون الانتصار لحركات التحرر الوطنى وللشعوب المقهورة، فى حال نجم عنها جبهة موحدة للمقاومة ووحدة للمقاومين فى الميدان، وخصوصا قيادة شجاعة وناضجة سياسيا وعسكريا، وتمتلك حدا أدنى من التخطيط والإمكانات والقدرات والاستعداد للتضحية.
حقّق مخيم جنين فى معركته الخالدة هذه الشروط، وهو يستحق هذا الانتصار الذى سيظل واحدا من أبرز محطات انتفاضة الأقصى ورموزها المباركة، انتفاضة الحرية والعودة والاستقلال.
• • •
يعبّر هذا الكتاب عن أصالة انتماء الكاتب وموضوع الكتاب، وهو كتاب نوعى بكل المعايير، وأتمنى أن يحذو الكتّاب والباحثون الشباب حذو هذا الكاتب واختيار موضوعات فلسطينية وعربية تستحق البحث فيها والكتابة بكل جرأة وشجاعة على أساس قواعد البحث العلمى. وليس من السهل أن يكون الكاتب جزءا من موضوع الكتاب، وأن يحافظ، فى الوقت نفسه، على رؤية موضوعية؛ فأن يكون الكاتب جزءا من التفصيلات التى يحاول إيصالها إلى القارئ، وأن يلخص أهم دروسها وعبرها مستخدما التعميم والتوصيف التجريدى الذى يتطلب قدرا كبيرا من التباعد والموضوعية، هو أمر يفوق قدرات الكاتب العادى أو الكاتب النظرى غير المنغمس فى مشهد الكتاب وموضوعه، إذ يصبح الكاتب فى هذه الحالة أشبه بجرّاح لا يجرى عملية لأحد أفراد أسرته، وإنما يجريها لنفسه ويشقّ لحمه بيديه.
إن مهمة المناضل الكاتب جمال حويل فى دراسته وكتابه «معركة مخيم جنين الكبرى 2002.. التاريخ الحى»، عبر تنقله من كونه التفصيل الحسى للأحداث إلى كونه الكاتب المناضل بصفته التجريد المجرد لها، رافقها عناء وألم شديدان لا نعتقد أن أى كاتب عادى كان من الممكن أن يمر بمثل تجربته من دون أن تنهار قواه ومعها مشروع كتابه. فالمعاناة والألم هنا ليسا بسبب الكتابة وإشكاليات البحث والكتاب، وإنما ألم عضوى مباشر بفعل استحضار لحظات فى غاية القسوة، لحظات فقد خلالها رفاق السلاح والدرب. إن الكتاب وبفعل خصوصية المقاومة، أو كما سمّاها جمال حويل كتاب يعتمد منهجية النار، جاءت لغته فى بعض الأحيان منفعلة، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن الكاتب حرص على ألاّ يفقد النص فعله، عرضا وتحليلا واستخلاصا للأحداث.
لقد تصرف حويل بروح المقاوم المسئول عن نصه تماما، مثلما تصرف فى أثناء المعارك والمواجهات داخل أزقة المخيم كونه أحد قادة كتائب شهداء الأقصى، وأحد قادة المعركة وغرفة عملياتها المشتركة، متنقلا من موقع إلى آخر ومشتبكا يرفع الهمم ويلهب المشاعر ويشد أزر المقاومين، ولحظة أُخرى يتخذ القرار عازلا مشاعره حازما لموقعه بما يتلاءم وواقع المعركة ومتطلباتها المادية فى الميدان، فلم يفقد انفعال المقاوم توازن الكاتب وموضوعيته.
ويقدم هذا الكتاب عرضا وافيا لكل الروايات المتضاربة بشأن ما جرى فى اجتياح مخيم جنين بما فيها رواية قادة العدو الصهيونى، وما تناقلته وسائل إعلامه العبرية، فيحاول الكاتب الابتعاد عن فرض روايته الخاصة بصفته شاهد عيان وأحد صنّاع الحدث وقادته، كما يعرض الاتصالات والمواقف السياسية والميدانية، ولا سيما الاتصالات التى جرت بالمقاومة داخل المخيم من قادة الفصائل ومسئوليها داخل فلسطين وخارجها، وقد قام بتحليلها نقديا، بالإضافة إلى الخطة العسكرية والاستعدادات التى رافقتها.
• • •
إن أهم ما يُثبته الكاتب المميز بموضوعيته والخاص بمنهجيته هو ما يلى: أولا، رفع الستار عمّا علق بالأحداث من أساطير وادعاءات، بل أحيانا معلومات مضللة، بعضها أُطلق إلى الفضاء بحسن نية، وبعضها الآخر أُطلق عن قصد وعمّمته وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال المعركة كجزء من الحرب الإعلامية والنفسية للنيل من صمود المقاومة داخل المخيم، والأهم للنيل مما قد يشكله مخيم جنين من نموذج للمقاومة والصمود فى الذاكرة الجمعية الفلسطينية كى لا يتم تقليده والسير على خطاه فى اجتياحات إسرائيلية مقبلة.
ثانيا، قدّم حويل تحليله للتجربة بما يتجاوز بعدها العسكرى ليصل إلى المعنى الإنسانى الملحمى، إذ بيّن لنا كيف انتصرت الروح والإرادة والإيمان على فارق الإمكانات الشاسع بين المقاومة وقوات الاحتلال.
ثالثا، لقد أوضحت تجربة مخيم جنين أن تلاحم أهله مع المقاومة جاء بمقدار تلاحم المقاومة وفصائلها المعبر عن الهوية الوطنية، لا بصفته شعارا لفظيا إنسانيا تزين به البيانات والخطابات فحسب، بل أيضا حقيقة جسدتها وحدة الدم فى الميدان وضرورة وطنية وشرط لتحقيق الانتصار، فالإرادة الوطنية هى سلاح المقاومة الفتاك فى مواجهة تفوقهم العسكرى.
هذا الكتاب سيُشكّل إضافة إلى المكتبة الوطنية الفلسطينية وإلى سجل المقاومة، إذ تفوح منه رائحة عطر الشهداء يتقدمهم زياد العامر وأبو جندل والنوبانى والصباغ وطوالبة والحلوة والنورسى ورياض بدير ومريم وشاحى وابنها منير وطه الزبيدى، وكل الشهداء الرجال والنساء والشباب والأطفال.
بقى أن أشير إلى أننى عشت تجربة مخيم جنين، عقلا وفكرا وقلبا ووجدانا ونفسا وروحا، وإن لم أكن حاضرا فيها جسدا، وأكاد أشعر حتى اللحظة بدفء مشاعر أهل المخيم ورائحة الدم وبسالة المقاومة ورصاص المقاتلين وقنابلهم وتحدى النساء والأطفال لجيش الاحتلال والعدوان ودباباته وطائراته وعرباته وقذائفه وجرافاته، وستظل معركة مخيم جنين كما معركة الكرامة وقلعة الشقيف وغزة ورفح وجباليا وعين الحلوة ومعارك الانتفاضة المجيدة وسام شرف على صدور كل الفلسطينيين والعرب، وسيظل عهدنا للشهداء صادقا ووفاؤنا لمبادئهم راسخا وعميقا فى العقل والقلب والوجدان، وإيماننا لا يتزعزع لحظة واحدة بعدالة قضيتنا وحقنا التاريخى والوطنى والقومى والدينى والإنسانى فى أرض الآباء والأجداد، وبحتمية النصر آجلا أم عاجلا، وبحتمية زوال الاحتلال وإلقائه بعيدا حيث ألقت الإنسانية وشعوبها المكافحة الفاشية والنازية والاستعمار والتمييز العنصرى.
أخيرا فإننا على ثقة بأن إشراف الأخ والصديق د. عبدالرحيم الشيخ ساهم بقدر كبير فى إنجاح هذا الكتاب، فهو المتميز بفكره وثقافته وأصالة انتمائه ويستحق كل الشكر والتقدير.
إننى على ثقة بأن هذا الكتاب الذى ستطالعه الأجيال سيشكل إفادة وغنى لتجربة المقاومة والنضال فى معركة شعبنا من أجل الحرية والعودة والاستقلال. (مروان البرغوثى. سجن هداريم، زنزانة رقم 28)
النص الأصلى