صراع اللقاحات وحق براءة امتلاك الشمس
ليلى إبراهيم شلبي
آخر تحديث:
الجمعة 11 يونيو 2021 - 9:13 م
بتوقيت القاهرة
يذكر العالم دون شك تفاصيل تلك القصة الباهرة لأحد أعظم الانتصارات العلمية فى تاريخ البشرية والتى حقق فيها العالمان جوناس سولك وألبرت سابين فوزا ساحقا على فيروس مرض شلل الأطفال بتحضير لقاح يقى من شر الإصابة به بنسبة تصل لمائة فى المائة. قطرتان من ذلك المحلول السحرى فى فم الطفل تقيه خطر الإصابة بالعجز مدى الحياة. الآن تعرف كل الأمهات فى العالم موعد تحصين طفلها ضد شلل الأطفال فتسرع إلى مراكز التطعيم، وبيدها قطعة من السكر تتلقى عليها قطرات محلول التطعيم الذى يتجلى بمرارة فى الطعم تداريها الأم بتلك الحيلة الصغيرة.
جوناس إدوارد سولك الطبيب الأمريكى عالم الفيروسات الأشهر الذى كان له فضل فى اكتشاف لقاح شلل الأطفال بعد تجارب عديدة على القرود مستخدما الفيروس ميتًا «Poliovirus»حتى أعلن كشفه العظيم عام ١٩٥٥ على العالم فى صورة حقنة كافية لصد هجوم الفيروس بقوة وكفاءة ،ثم تلاه رفيق رحلة كفاحه ألبرت سابين الذى طور اللقاح من محلول يتم حقنه إلى آخر يتم فيه تناول الفيروس مضعفا ،وليس ميتا فى محلول يقطر للطفل فى فمه فى سهولة ويسر.
قدم سولك انتصاره العظيم هدية لأطفال العالم ،مدركا أنه يقدم لهم أملا غاليا ،لا يضاهيه ثمن ولا يقدر بثروة، سألوه عن حقه فى براءة الاختراع فجاء رده كامل البهاء: هل هناك من يملك براءة اختراع الشمس؟ تنازل الرجل راضيا مرضيا عن حق أصيل له فى ملايين رآها أقل بكثير مما طمحت إليه نفسه!
دارت الأيام فاستخدمت أمريكا لقاح شلل الأطفال للإيقاع بأسامة بن لادن مختبئا فى أفغانستان. أرسلت البعثات الطبية تحت غطاء تطعيم الأطفال ضد شلل الأطفال، فكان أن وصلوا لبيته الذى فتحته لهم إحدى زوجاته رغبة منها فى حماية أطفالها، فاغتالوا الأسرة بأكملها وجعلوا من المحيط قبرا لجثمانه، وانتهى الأمر بمهاجمة البعثات الطبية التى عادة ما كان يستخدمها الأمريكان من أهل البلاد ويكتفون بالتوجيه عن بعد وقطع رءوس أفرادها فى أفغانسان وباكستان بل وتولت الأمر «بوكو حرام» فى نيجيريا أيضا فارتكبت الفضائع وأجهزت على أمل الأبرياء فى تلقى تلك المنحة الكريمة التى وهبها «سولك» للعالم حماية لهم من عدو غادر يقيد أرجلهم للأرض ويمنعهم من السعى فيها.
لم تفارقنى تلك الصور خلال أيام الأسبوع الماضى كأنما أصبحنا بالفعل ننتمى إلى عالم آخر رغم أننا فيما يبدو قد عاصرنا العالمين، العالم الأول كانت الدنيا تدين للعلم فيه تتضافر وتتوالى جهود العلماء لدعم العلم فى مواجهة عدوان الطبيعة على الإنسان بما تدفعه من ميكروبات وباكيتريا وفيروسات. حماية الإنسان من ويلات الأمراض كانت الهدف الأول الذى يسعى إليه العلم، نجحت اللقاحات والأمصال فى حماية البشر من أمراض فتاكة اختفت من على الأرض وكانت أشباحا للهلاك تزرع فى النفوس الهلع وتحصد الموت.
احتفل العلم والعالم باستئصال مرض الجدرى من العالم نتيجة الجهود التى بذلت بعد التوصل للقاح الواقى منه بينما نجح العلم بالفعل فى مقاومة أمراض عديدة معدية خطيرة منها الدفتريا وشلل الأطفال والحصبة بأنواعها والحمى النكافية وغيرها. فما الذى يحدث الآن فى العالم؟
حتى الإنفلوانزا الموسمية فيروسية النشأة والسبب أصبح لدينا لقاح يحضر سنويا وفقا للسلالات المتوقعة منها يقبل عليه الانسان ما دون حاجة للإلحاح عليه. بل أيضا استحدثت لقاحات للالتهاب الرئوى ولقاحات يحبذ تناولها لكبار السن حتى وإن تلقوها فى طفولتهم!
كانت دائما فكرة اللقاحات والأمصال فكرة علمية مقبولة يدعمها العلم ويقبل عليها الإنسان ثقة فى العلم وتسليما له: فما الذى يحدث الآن فى العالم؟
لم يشهد العالم رفضا لفكرة اللقاحات إلا أخيرا حينما شاعت مقولة أن تطعيم الأطفال وقاية من الحصبة يصيبهم بالتوحد، الأمر الذى دعا العائلات الأمريكية أن ترفض تحصين أطفالها فكانت النتيجة أن تفشت الحصبة بصورة وبائية فى مناطق متعددة من الولايات المتحدة،وبعد البحث والتقصى ظهر أن البداية كانت حينما نشر طبيب أطفال فى دورية علمية نتائج بحث له يشير إلى أن مكونات التطعيم قد تتسبب فى إصابة الأطفال بالتوحد. أعيد تقييم البحث وثبت زيفه وتمت محاكمة الطبيب وأوقف عن ممارسة المهنة.
من الواضح أن الأمر يتكرر الآن بصورة أقوى أثرا وأكثر تنظيما لدفع الإنسان لمقاومة اللقاح والإعراض عن التطعيم، هناك لوبى قوى صاحب أذرع طويلة تطال العالم بأسره وتمس وعى الإنسان وعقله.
احتفى الإنسان بلقاح شلل الأطفال وغيره من لقاحات وأمصال رآها تحفظ عليه وعلى أطفاله الحق فى حياة.
لا أحد يمكنه أن يجادل فى أهمية الوقاية أو ضرورة اللقاحات لكن ما يحدث الآن فى العالم من متغيرات ينصب شركا محكما للإنسان يوقعه فى الالتباس والارتباك.
ارتباط صناعة اللقاحات فى العالم بسياسات الدول واقتصادياتها ومصالحها الدولية. والمحلية وعجز المؤسسات الدولية كمنظمة الصحة العالمية عن التدخل كشريك أساسى مؤثر فى تلك الوقعة الفريدة من نوعها وراء كل هذا الارتباك وتداعى الفهم وتراجع الوعى لدى الإنسان. نجحت اللقاحات فى حماية الإنسان حينما ساد العلم وتراجعت المصالح. أما الآن فقد تصارعت المصالح وتصالحت الأغراض الاقتصادية فتراجع العلم.. وسقطت الحماية عن الإنسان الذى وقف مذهولا يرقب ما يحدث حوله.. دون حول أو قوة.
هذا بالفعل ما يحدث الآن ،ولن يستعيد العالم توازنه إلا حينما ينال الإنسان فى كل مكان حقا مشروعا فى تلقى اللقاح الذى يحميه فى ظل العلم.. بعيدا عن الحق فى امتلاك الشمس كما عبر سولك بتلقائية إنسانية.