«رسول السلام» أم الخراب؟
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 11 أغسطس 2018 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
كشف مقال فى الأسبوع الماضى فى مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية ذات النفوذ، المتخصصة فى السياسة الخارجية الأمريكية، أن صهر الرئيس الأمريكى ومستشاره، جاريد كوشنر، المكلف بالوصول إلى تسوية «للنزاع الإسرائيلى الفلسطينى»، يعمل على إنهاء وجود وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى الشرق الأدنى (أونروا)، وهى الوكالة التى توفر التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والحماية لخمسة ملايين لاجئ فلسطينى.
نشأت أونروا بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 الصادر فى دورتها الرابعة فى ديسمبر سنة 1949 وهى بدأت أنشطتها فى مايو 1950. مناطق عمليات أونروا تقع فى الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد تجددت ولاية أونروا بانتظام منذ نشأتها، وهى حاليا ممتدة حتى يونيو سنة 2020. أما المستفيدون من خدمات أونروا فهم اللاجئون الذين اضطروا إلى الفرار من فلسطين سنة 1948 وكذلك النازحون بعد حرب يونيو سنة 1967. الوكالة تواجه أزمات مالية مزمنة تؤثر فى الخدمات التى تقدمها للاجئين الفلسطينيين. ميزانية الوكالة تموّل طوعيا بشكل كامل تقريبا، وأكبر مموليها منذ نشأتها هم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى. الميزانية التى بلغت 1,23 مليار دولار فى سنة 2010ــ2011 فى تراجع حسبما يتبيّن من الأرقام المنشورة.
ينعى كوشنر وغيره من أعضاء الفريق الذى عينه الرئيس الأمريكى لتسوية النزاع على الوكالة أنها تبقى على «الوضع الراهن» على ما هو عليه وأنها لا تساعد على تحقيق السلام. يصف كوشنر الوكالة بالفساد وبعدم الكفاءة، ولذلك فهو كتب لزملائه، على عهدة المجلة الأمريكية: «إنه من المهم بذل جهد صريح ومخلص لتخريب أونروا». كوشنر والفريق الأمريكى يعتبرون أن الوكالة جزء من بنية دولية أبقت على مسألة اللاجئين حية بشكل مصطنع وحافظت على آمال اللاجئين فى أن يعودوا فى يوم من الأيام إلى ديارهم. يرتبط بهذا نقد آخر يوجه للوكالة ألا وهو أن مدارسها والتعليم الذى توفره قناة لتناقل الشعور الوطنى بين الأجيال الفلسطينية وأنها بذلك تحض على كراهية إسرائيل. وجه خامس لنقد الوكالة هو أنها تمنح وضع اللاجئ ليس فقط لمن فرّوا من فلسطين فى نهاية الأربعينيات وإنما كذلك لأبنائهم وأحفادهم. هذا دفع كوشنر ومعه نصير الاستيطان فى الضفة الغربية، الممثل الخاص للرئيس الأمريكى فى الشرق الأوسط، جيسون جرينبلات، إلى الضغط على الحكومة الأردنية فى شهر يونيو الماضى لكى تسحب اعترافها بوضع اللاجئ من مليونين من الفلسطينيين المسجلين فيها كلاجئين حتى تتوقف أونروا عن العمل فى الأردن. القصد هو أن يجرى توطين اللاجئين الفلسطينيين فى البلدان العربية المتاخمة التى تأويهم وأن تضطلع حكومات هذه البلدان بالأدوار التى تقوم بها أونروا حاليا وأن يكون التوطين بتمويل من دول الخليج. بعبارة أخرى، الفكرة هى أن يتحلل الشعب الفلسطينى فى داخل الشعوب العربية الأخرى، وبذلك تصفّى مسألة اللاجئين الفلسطينيين، وتختفى من على طاولة أى مفاوضات ممكنة، وهو بالضبط ما تصورته الإدارة الأمريكية عندما اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارتها إليها. عندئذ قالت إن القدس قد رفعت من جدول أعمال أى مفاوضات وبذلك أصبحت التسوية أكثر سهولة. المحصلة هى أن القوة الأكبر فى العالم تتخذ سبيلا لتسوية النزاعات الدولية أن تقرر أن النزاعات ليست موجودة أصلا! شيء يدعو للعجب! غير أنه يمكن أيضا ألا يكون مدعاة للعجب إن تنبهنا إلى أن ما يحرك إدارة الرئيس ترامب فى سعيها إلى تسوية «النزاع الإسرائيلى الفلسطيني»، وليس القضية الفلسطينية، هو رغبتها فى تكريس المواقف الإسرائيلية، حتى أكثرها تطرفا. وهى تفعل ذلك فيما يتعلق بأكثر المسائل الشائكة التى تعترض التسوية العادلة والقابلة للاستدامة للقضية الفلسطينية، ألا وهما وضع القدس واللاجئين الفلسطينيين. يلاحظ أنه نشأت لدى كوشنر وفريقه فكرةٌ، هى أن من بقى على قيد الحياة من الفلسطينيين من اللاجئين الذين فرّوا من فلسطين فى سنة 1948 وحدهم، تنتقل المسئولية عنهم إلى مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين وهى المسئولة عن حماية اللاجئين فى العالم بشكل عام وعن إعاشتهم وإيجاد حلول دائمة للجوئهم إلى دول أخرى، وهى الراعية والساهرة على تنفيذ أحكام الاتفاقية الدولية بشأن وضع اللاجئين لسنة 1951. المنطق من وراء الفكرة هو لماذا يكون للفلسطينيين وكالة تميزهم.
بالإضافة إلى سوء النية، فإن موقف كوشنر ومن يشاركونه آراءه يكشف عن جهل تام بخلفيات القضية وأبعادها وتطورها والآثار الممكنة لأفكارهم على دول المنطقة واستقرارها والسلام فيها. التعليق على هذه الأفكار ضرورى ولكننا نبدأ باختصار شديد بتناول نشأة مسألة اللاجئين الفلسطينيين.
***
الموقف الإسرائيلى الذى يلقى المساندة من «رسول السلام» الأمريكى الحالى هو أن مسألة اللاجئين نشأت كنتيجة طبيعية للقتال فى فلسطين سنة 1948 من جانب، ولأن الزعماء العرب عندئذ دعوا الفلسطينيين إلى مغادرة فلسطين مؤقتا بوعد أن يعودوا إليها بعد الانتصار فى الحرب، من جانب آخر. ليست هناك بينة واحدة على صحة هذا الزعم الأخير، والادعاء الأول يجافى الحقيقة بدوره. الخطة الصهيونية لإرهاب الفلسطينيين حتى يغادروا ديارهم ثابتة إلّا لمن يريد تجاهل الحقيقة عمدا. مذبحة دير ياسين فى إبريل سنة 1948، قبل إعلان دولة إسرائيل والحرب، معروفة، وكانت هذه وظيفتها المبتغاة. ما ليس معروفا بنفس الشكل هو الخطة «داليت»، أو «دال» بالعبرية، التى كشف عنها المؤرخ الإسرائيلى إيلان بابيه، وهى خطة وضعت فى النصف الأول من الأربعينيات، مُسِحَت فلسطين بمقتضاها قرية فقرية للتعرف على جغرافيتها، ومواردها، والنشاط الاقتصادى فيها، وتركيبتها السكانية، والأنشطة السياسية والاجتماعية لسكانها، بهدف التخلص من هؤلاء السكان بعد إعلان إسرائيل واستغلال الموارد التى كانوا يعيشون عليها، بل وهدم القرى وتغيير ملامح الخريطة الفلسطينية. مسألة اللاجئين الفلسطينيين ليست من تداعيات حرب فلسطين وإنما لها أصل مخطط له بشكل منهجى.
***
فساد الوكالة يكفى لدحضه أن ما يقرب من نصف ميزانيتها ينفق على التعليم ما جعل الفلسطينيين فى طليعة الشعوب العربية تعليما. أما عن أن اللاجئين الفلسطينيين يميزون بأن وضع اللاجئ ينتقل فيهم إلى الأبناء والأحفاد فهو ليس صحيحا. هذا مطبق على كل مجموعات اللاجئين فى العالم. دليل المفوضية السامية عن إجراءات ومعايير تحديد وضع اللاجئ ينص فى فقرته رقم 184 على أن معايير وضع اللاجئ إن انطبقت على رب الأسرة فهى تنتقل إلى من يعولهم بمقتضى مبدأ وحدة الأسرة. الباب الخامس من المعايير الإجرائية للمفوضية السامية لتحديد وضع اللاجئ واضح تماما بدوره فى نصه على أنه طبقا لمبدأ وحدة الأسرة ينتقل وضع اللاجئ بين الأجيال. أما عن انتقال اختصاص الوكالة إلى المفوضية السامية فهو يبيّن أن أنصار إسرائيل لا يعرفون عن موقف إسرائيل نفسها وموقف أسلافهم. الاتفاقية الدولية لسنة 1951 تستبعد من ولايتها اللاجئين الفلسطينيين بنصها فى مادتها الأولى الفقرة «دال» على أنها لا تنطبق على أى شخص يتلقى مساعدة أو حماية من أى وكالة أو جهاز فى الأمم المتحدة غير المفوضية السامية للاجئين. الهدف من وراء هذا الحكم هو ألا ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين الحل الأول من الحلول الثلاثة الدائمة المنصوص عليها فى الاتفاقية، ألا وهو العودة الطوعية للاجئين إلى ديارهم، الذى ترفضه إسرائيل بالطبع. عدم قبول إسرائيل باختصاص المفوضية السامية مستمر حتى الآن وإلا فما هو السبب فى عدم امتداد هذا الاختصاص إلى اللاجئين الفلسطينيين حتى اليوم؟ لم تكن أونروا وحدها المقصودة بالمادة الأولى فقرة «دال» من اتفاقية سنة 1951. القرار 302 للجمعية العامة لم ينص على أن ولاية أونروا تشمل حماية اللاجئين الفلسطينيين. الحماية كانت من وظائف جهاز آخر هو لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين، وهى لجنة فشلت فى عملها وكفّت عن الوجود فى بداية الخمسينيات. كثرة من خبراء القانون الدولى يعتبرون أنه نتيجة لذلك يجب أن تنتقل حماية الفلسطينيين تلقائيا إلى المفوضية السامية ولكن ذلك لا يحدث، وأغلب الظن أنه لا يحدث أيضا لتفادى خيار العودة الطوعية. وجه السخرية هو أنه عمليا فضّلت إسرائيل أن تنتقل الحماية، كأمر واقع وليس بنص قانونى، إلى أونروا على أن تنطبق ولاية المفوضية السامية على اللاجئين الفلسطينيين.
التوطين فى البلدان العربية المتاخمة التى لجأ إليها الفلسطينيون لا يعرف كوشنر وبقية الفريق الأمريكى بأبعاده. هذا التوطين يتعلق بالتركيب السكانى لكل من الأردن ولبنان بشكل محدد. فى الأردن التوازن بين المكونين الشرق أردنى والفلسطينى للسكان مسألة شائكة الإخلال بها يهدد الاستقرار فى البلاد. فى لبنان، التوطين مرفوض تماما لأنه بدوره يخلّ بالتوازن بين طوائفه السبع عشرة بل ولأنه يقوض المنطق والمبرر لوجوده أصلا. التوطين «من أجل السلام» بين إسرائيل والشعب الفلسطينى من شأنه أن يتحول بذلك إلى عنف معمم فى الشرق الأوسط!
يلاحظ أن مقاربة كوشنر والفريق الأمريكى لا تتعلق بأونروا وحدها وإنما بمجمل مسألة اللاجئين الفلسطينيين، وهى تبغى الإلغاء الفعلى لقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948 والذى ينص على عودة اللاجئين الذين يرغبون فى ذلك وعيشهم فى سلام مع جيرانهم أو على تعويض من يختار عدم العودة عن ممتلكاتهم. فى الواقع الحالى، لا يمكن تنفيذ هذا القرار إلا بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة حقيقةً «يختار» أغلب اللاجئين الفلسطينيين العودة إليها وليس بالضرورة إلى ديارهم الأصلية. هذه فكرة مطروحة ينبغى أن يتمسك بها العرب وأن يتشبثوا معها بالقرار رقم 194.
***
لكن أين الحكومات العربية أساسا من عبث كوشنر؟ ماذا تنتظر لاستنكاره علنا؟ فى هذا الاستنكار تعزيز لمواقفها من مسألة اللاجئين وتسوية القضية الفلسطينية عموما بل وفى النظامين الإقليمى والدولى. عندئذ لن يعتبر الرئيس الأمريكى أن تماشيها معه أمرٌ مسلّمٌ به. والوقت مناسب لذلك. الأسس التى يقف عليها الرئيس الأمريكى فى تحركاته الخارجية ضعيفة. هو يواجه مشكلات مع مؤسسة السياسة الخارجية وخبرائها فى الولايات المتحدة، ومع حلفائه الأهم فى أوروبا وكندا، ومع المكسيك، ومع الصين، وهو لا يمكن أن يكون على خير وئام مع روسيا.
قد تتردد دول عربية فى الخروج على ما يخططه فريق ترامب، ولكن دولا عربية أخرى ستكون مستعدةً لذلك. يجب أن تكون مصر فى طليعة هذه الدول لأن هذا فى مصلحة السلام المستدام المنشود فى المنطقة، وفى مصلحتها بشكل أعمّ.